طريقة ذكيّة للتغلّب على الحرارة

باحثو مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية يطوِّرون نظامًا يمكنه تنظيم درجة حرارة الجسم في الوقت الفعلي، للمساعدة على علاج مرضى ضربة الشمس.

ZEPHYR/ Science Photo Library / Getty Images Plus

تمثّل ضربة الشمس مصدر قلق كبير في المملكة العربية السعودية، خاصةً عندما يتزامن الحج مع أكثر الشهور ارتفاعًا في درجة الحرارة بالمملكة، كما هو الحال هذا العام. ففي عام 1985، على سبيل المثال، حلَّ موسم الحج في ظروف مماثلة من ناحية درجة الحرارة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 1000 شخص في غضون بضعة أيام جرَّاء ضربة الشمس.

لذا، طوَّر باحثو مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية (كيمارك) نظامًا متعدد المستشعرات يحاكي وظائف التنظيم الحراري في منطقة تحت المهاد بالدماغ. ويهدف هذا النظام إلى إحداث تحوّل في طريقة معالجة ضربة الشمس المهددة للحياة.

وأعدَّ عبد الرزاق بوشامة، الخبير في ضربة الشمس، برنامجًا بحثيًا يهدف إلى فهم تأثير الحرارة فهمًا أفضل، ووضع تدابير وقائية وعلاجية فعالة ضد ضربة الشمس. وبالاشتراك مع المخترع علي المنتشري، ابتكر فريقه طريقة تعتمد على نظام تحكم ذكي يشبه منطقة تحت المهاد، لتحسين تنظيم درجة الحرارة في الوقت الفعلي. يقول بوشامة: "نتوقع أن يُرسي هذا الاختراع معيارًا جديدًا للعلاج بالتبريد".

يُذكر أن منطقة تحت المهاد جزء من الدماغ يعمل منظِّمًا حراريًا للجسم، فهي تراقب درجة الحرارة الأساسية باستمرار وتعمل على ضبطها عند 37 درجة مئوية وفقًا للتغيرات في درجة حرارة البيئة، لضمان أداء الوظيفة الخلوية بشكل طبيعي. ويتحقق هذا الضبط عبر استجابات مختلفة، بما في ذلك تنظيم إنتاج العرق والحرارة من قبل العضلات استجابة للحرارة أو البرودة.

 إن فشل هذا النظام التنظيمي بالجسم قد يؤدِّي إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض الحرارة وخاصة ضربة الشمس. وتتسبَّب الإصابة بضربة الشمس في زيادة سريعة بدرجة حرارة الجسم لأعلى من 40 درجة مئوية، مصحوبة بتغيرات عصبية مثل الهذيان والتشوش أو الغيبوبة. وقد تُلحق الحرارة ضررًا دائمًا بالخلايا، ما يؤدِّي إلى فشل الأعضاء المتعدد والموت في نهاية المطاف.

 يعلِّق بوشامة: "الإصابة بضربة الشمس حالة طوارئ طبية حقيقية، لأنه إذا لم يُنقل المصابون بها بعيدًا عن الحرارة وتُبرّد أجسادهم سريعًا، سيموتون خلال ساعات قليلة".

 تنتج ضربة الشمس عن ممارسة رياضة بدنية شاقة أو التعرض لدرجات حرارة بالغة الارتفاع. وهي مشكلة صحية عامة كبرى في المملكة العربية السعودية، خاصةً مع تزامن موسم الحج السنوي بمكة المكرمة مع موسم الصيف شديد الحرارة. يقول بوشامة: "بعد وصولي إلى هذا البلد مباشرة [منذ أكثر من 30 عامًا]، اكتشفت مدى خطورة ضربة الشمس". فوفقًا للتنبؤات الوبائية المستندة إلى نحو مليوني حاج، قد تحدث عدّة آلاف من حالات الإصابة بضربة شمس في أثناء موسم الحج، وقد تصل نسبة الوفيات بينها إلى 50% كل عام. ويضيف أن هذا التنبؤ ربما يقدم معدلات تقل عن الانتشار الفعلي لهذا المرض والوفيات المرتبطة بالحرارة؛ إذ يُتوقَّع في ظل تغيّر المناخ، أن ترتفع درجات الحرارة إلى مستويات قصوى في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما أن ضربة الشمس أصبحت من الأمور الصحية المهمة الباعثة على القلق في جميع أنحاء العالم نتيجة للاحتباس الحراري.

التغلب على الحرارة

عادة ما تنطوي الإجراءات الحالية لمكافحة ضربة الشمس على الحدِّ من التعرّض للحرارة والتبريد الجسدي. وعلى وجه التحديد، غمر المرضى في الماء البارد وتغطيتهم بأكياس التبريد أو الثلج المجروش، أو يرشون بالماء البارد وتهويتهم على نحو متواصل باستخدام المراوح لتعزيز تبخّر الحرارة. ومع ذلك، فقد يسبب التبريد السريع آثارًا جانبية، مثل عدم الارتياح والقشعريرة الشديدة وتضيق الأوعية الدموية بالجلد، مما قد يعزّز السخونة بدلاً من الحصول على التأثير المنشود. تعتمد أجهزة التبريد الحديثة، مثل قساطر الأوردة الداخلية وأكياس وبطانيات التبريد، على مواد تسرع تحويل الحرارة من السخونة إلى البرودة بدلاً من الثلج أو الماء البارد. إلا أن هذه الأجهزة الحديثة لم تُحقق سوى تحسّنًا طفيفًا مقارنة بالطرق التقليدية، لأنها، وفقًا لبوشامة، أغفلت مدى تعقيد آليات استجابة التنظيم الحراري. 

أما نظام بوشامة فيعتمد على نظام ذكي يشبه منطقة تحت المهاد في الدماغ لتنظيم حرارة الجسم، بدلاً من الاعتماد على تقنيات التبريد التقليدية. ويمكن لنظام تحت المهاد الصناعي أن يراقب عديدًا من المؤشرات الفسيولوجية في وقت واحد، مثل درجة حرارة الجسم الداخلية، ودرجة حرارة الجلد، والدورة الدموية، ونشاط العضلات، باستخدام مستشعرات متعددة. ومن خلال جمع هذه البيانات، يمكن للنظام أن يتفاعل بسرعة تفوق سرعة نظيره الطبيعي.

 ويشرح بوشامة نظامه: "بمجرد أن تكتشف هذه المستشعرات انخفاض درجة حرارة الجلد إلى أقل من 32 درجة مئوية، أو زيادة نشاط العضلات أو انخفاض تدفّق الدم قبل أن تصل أي إشارة بذلك إلى منطقة تحت المهاد، سيتوقف النظام عن التبريد، وينشّط تدفئة الجلد إلى أن تصل كل هذه البيانات إلى القيم الطبيعية". في هذا المثال، يساعد نظام التحكم الذكي على تحسين التبريد بتجاوز المستقبلات الحرارية للمريض، ومنع منطقة تحت المهاد من التسبب في تأثيرات سلبية، مثل تضيق الأوعية الدموية والقشعريرة. وبمجرد أن يصبح الجلد دافئًا، يستأنف النظام عملية التبريد.  

يعمل نظام تحت المهاد الصناعي عن طريق حلقة تغذية من التأثيرات المتبادلة تُسجَّل فيها المعلومات المُكتشفة وتُعالَج باستخدام المستشعرات، كما يحدد النظام أيضًا ما إذا كانت هذه المعلومات تقع ضمن نطاق طبيعي مُحدَّد مسبقًا، ويحوِّلها إلى ما يطلق عليه "القيم الضبابية" إذا لم تقع في نطاق المعدل الطبيعي. وبعد ذلك، يقيِّم النظام مجموعة من القواعد المُحدَّدة مسبقًا ويجمع بينها لإخراج قيمة دقيقة تُرسَل إلى مجموعة من أجهزة التبريد، مثل المروحة، وبطانية التبريد، وجهاز تدوير المياه، ونظام التبادل الحراري داخل الأوعية الدموية.

إن الجيل التالي من تقنيات التبريد المزود بنظام تحت المهاد صناعي يحقق تبريدًا متوقعًا وسريعًا، ويقضي على الرعشة، ويحافظ على تدفق الدم إلى سطح الجلد، ويقلل من الحاجة إلى المهدئات والتخدير اللذين يُستخدما عادة للسيطرة على الأعراض الجانبية لتقنيات التبريد الحالية.

يستخدم نظام تحت المهاد الصناعي خوارزمية تعلم عميق تعتمد على شبكة من المستشعرات تشمل تدفق الدم إلى سطح الجلد، ودرجة حرارة الجسم الخارجية والداخلية، والنشاط العصبي العضلي المرصود في الوقت الفعلي. ويسمح نظام التبريد هذا المبني على أساس فسيولوجي للطبيب بعلاج مريض ضربة الشمس فورًا من خلال برمجة الجهاز، باستخدام ملف تعريف درجة الحرارة المتوافق مع الحالة الصحية للمريض المُسجّلة مسبقًا -مثل إصابته بأمراض الأوعية الدموية- وتعديل البرنامج بمجرد توفير التشخيص النهائي.

وفي الوقت الحاليّ يتعاون فريق بوشامة مع شركة سعودية في إطار مرحلة إثبات الفكرة ضمن عملية تطوير نظام ما تحت المهاد الصناعي. ويقول بوشامة: "عندما ننتهي من هذه المرحلة، سنطوِّر نموذجًا أوليًا سيُدمَج في أي جهاز تبريد".

إن التأثير المتوقع فيما يتعلق بالتسويق تجاريًا قد يكون دوليًا. أما على الصعيد الوطني، فسيكون فوريًا، إذ إن سرير التبريد الجديد يُعد عنصرًا مطلوبًا في استجابة الصحة العامة لحالات ضربة الشمس، خاصة مع تزامن موسم الحج حاليًا مع أشد الفصول حرارة. كما يمكن للجهاز أن يكون ذا نفع خارج المملكة العربية السعودية أيضًا، سواء على المستوى العسكري، أم مع العاملين في المناطق المكشوفة، وكذلك الرياضيين الذين يواجهون خطر التعرض لضربة الشمس.

References

  1. Bouchama, A. and Almuntashri, A. Method for regulating body temperature. US Patent 10307287B2, Published June 4, 2019. 

  2. Bouchama, A. and Almuntashri, A. Artificial hypothalamus for body temperature regulation. US Patent 10188548B2, Published January 29, 2017.  

أقرأ أيضا

مجالٌ للتوسع في استخدام الأدوات الرقميّة في نظام الرعاية الصحية السعودي

دراسة على العاملين في نظام الرعاية الصحيّة السعوديّ تكشف عزوفهم عن استخدام الهواتف المحمولة لأغراض العمل، رغم ارتفاع معدَّلات انتشارها.  

الكشف عن لهيكل الخلوي

بحث جديد يخلُص إلى أن التنظيم السليم للهيكل الخلوي أثناء تكوين الخلايا العظمية  عامل النمو بيتا 1 (TGFβ1)، وهو من عوامل النمو الرئيسية

إنجازٌ كبير في تصوير نخاع العظم

تقنية جديدة للتصوير ثلاثيّ الأبعاد تكشف توزيع الخلايا والأنسجة والبروتينات داخل نخاع العظم.