علاج فيروس نقص المناعة البشرية بالخلايا الجذعية: لماذا الإعلان عن علاج شافٍ للمرض سابقٌ لأوانه؟

برز كلٌ من تحرير الجينات والعلاج بالخلايا الجذعية بوصفهما نهجين واعدين لعلاج فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز، بالرغم من ندرة المتلقين المثاليين.

قراءة

Stocktrek Images, Inc. / Alamy Stock Photo

عقب مرور أكثر من عشرة أعوام على شفاء "تيموثي راي براون"، وهو رجل أمريكي يُعرف بلقب "مريض برلين"، من فيروس نقص المناعة البشرية بعد عملية لزرع نخاع العظم، انتشرت في مارس الماضي أنباء عن حالة مماثلة: "مريض لندن". أشعلت الحالة جذوة الأمل من جديد، في ظل ورود تقارير تفيد بأن حالة "براون" قد تكون قابلة للتكرار، وبأن العلم يوشك على العثور على علاج لفيروس نقص المناعة البشرية.

يوجد حوالي 37.9 مليون مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، وهو الفيروس المسبب لمرض الإيدز، على مستوى العالم، وذلك وفقًا لأحدث البيانات المتوفرة من برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالإيدز UNAIDS)). ويخضع أكثر من 23 مليون من هؤلاء المرضى لشكل من أشكال العلاج بمضادات فيروسات النسخ العكسي، وهو نظام علاجي قياسي يتكون من مزيج من اثنين أو أكثر من عقاقير فيروس نقص المناعة البشرية لكبح الفيروس والسيطرة على تقدمه.

في شهر مارس 2019، وفي أعقاب الأنباء المنتشرة بخصوص "مريض لندن"، ظهرت حالة رجل مجهول الهوية من مدينة دوسلدورف ظل خاليًا من فيروس نقص المناعة البشرية لمدة خمسة أعوام بعد عملية لزرع نخاع العظم، ولمدة أشهر بعد التوقف عن العلاج بمضادات فيروسات النسخ العكسي، ليصبح فيما يبدو الشخص الثالث الذي تعافى من فيروس نقص المناعة البشرية.

 لم يتم الاحتفاء بحالته كالحالتين السابقتين نظرًا لمرور ثلاثة أشهر فقط على هدأة المرض (خمود المرض) وقت الإعلان، وهي "مرحلة مبكرة" وفقًا لما ذكره بيورن جنسن، الطبيب المشرف على حالته، فضلاً عن أن دراسة حالته لم تنشر بعد.

كان جميع المرضى الثلاثة مصابين باللوكيميا (ابيضاض الدم)، وهو نوع من سرطان الدم يُعرف بشراسته، وقد خضعوا لعمليات زرع نخاع العظم كجزء من علاج السرطان. وقد أُخذت الخلايا المزروعة لهم على وجه التحديد من متبرعين يحملون طفرة وراثية نادرة في جين CCR5 يُطلق عليها CCR5-delta 32، وهي مقاومة لفيروس نقص المناعة البشرية ولا تظهر إلا لدى الأشخاص المنحدرين من أصل أوروبي. كان مريض لندن، على سبيل المثال، مصابًا بسرطان الغدد الليمفاوية من النوع هودجكين من الدرجة الرابعة وخضع لأنواع متعددة من العلاج الكيميائي فشلت جميعها في علاجه. ثم اضطر للخضوع لزرع الخلايا الجذعية، وتوافق معه متبرع يحمل الطفرة CCR5-delta 32 في كلتا نسختي الجين، محاكيًّا بذلك نمط مريض برلين.

عندما يدخل فيروس نقص المناعة البشرية إلى الجسم، فإنه يستهدف الخلايا المناعية التي تكافح العدوى، لكن حاملي الجين المتحوّر CCR5-delta 32 ليسوا عرضة لهذا الهجوم.

تتسبب خلايا Gandalf المزروعة، التي تلقاها مرضى لندن وبرلين ودوسلدورف، في انكماش المستقبلات المساعدة للجين CCR5 – وهي البوابات التي توجد خارج الخلية – وانهيارها إلى الداخل؛ مما يحول دون مرور الفيروس عبرها. وبعبارة أخرى، يحيل الزرع الذي يأتي من حاملي طفرة CCR5 خلايا نخاع العظم السرطانية إلى خلايا مقاومة لفيروس نقص المناعة البشرية، مما يمنع عودة الفيروس.

في عام 2016 أوُقف علاج مريض لندن بمضادات فيروسات النسخ العكسي، بعد 16 شهرًا من عملية الزرع ولا يزال المرض خامدًا. أما مريض برلين فهو في حالة خمود لأكثر من 10 أعوام. كما لم يعان أي منهما انتكاسة لدى توقفهما عن أدوية فيروس نقص المناعة البشرية.

الأساس العلمي للشفاء من فيروس نقص المناعة البشرية: تفاؤل حذر

إن عملية التعافي عبر العلاج بالخلايا الجذعية طويلة ومعقدة. لقد استغرق الأمر ثلاثة أعوام من الاختبارات الصارمة التي تلت عملية الزرع للتأكد من خلو مريض لندن من فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة، في حين استغرقت خمسة أعوام بالنسبة لمريض دوسلدورف. وأُوقفت مضادات فيروسات النسخ العكسي بعد ذلك بشهور. كما يتعين على الباحثين الانتظار شهورًا أخرى قبل أن يكون بإمكانهم تأكيد خلو المريض من فيروس نقص المناعة البشرية.

هرعت وسائل الإعلام إلى وصف الحالة بأنها إنجاز غير مسبوق، وإلى وصف العلاج بأنه نصر مُحرز في الحرب على مرض الإيدز، وهو متلازمة نقص المناعة المكتسبة التي تسبب أضرارًا غير قابلة للإصلاح في الجهاز المناعي.

ويبدو أنها خطوة بارزة إلى الأمام، كما أشار الكثيرون. وفي تصريح لمجلة "ابتكارات مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية" قال جيرو هوتر، عالم أمراض الدم الرائد في علاج فيروس نقص المناعة البشرية بالخلايا الجذعية والذي عالج مريض برلين: "لقد استأصلنا المرض في الحالات الثلاثة التي أجريت فيها عملية زرع CCR5-delta 32 بنجاح". وتشير الأدلة إلى أن "استنزاف CCR5 مسؤول عن تحقيق نتائج مشابهة".

غير أن الخبراء المستقلين يتساءلون عمّا إذا كان ادعاء شفاء المريضين الثاني والثالث –بشكلٍ قطعي– سابقًا لأوانه عوضًا عن مرورهما بمرحلة خمود طويلة للمرض. فقد حذر قائد فريق البحث نفسه، رافيندرا جوبتا، من الصحف التي وصفت ما حدث بأنه شفاء من المرض، دون تحفظات.  وقد صرح جوبتا، وهو أيضًا أستاذ بكلية لندن الجامعية وجامعة كامبريدج، قائلاً: "أعتقد أن البيان الصحفي [الذي كتبناه] كان حذرًا في صياغته. وفي رأيي أن تفسير الناس له بطريقة معينة ينافي قواعد الأمانة الصحفية. آمل أن يستوعب الناس الحقيقة".

وفقًا لتصريح هوتر، العلاج يمكن تحقيقه، والتعديلات عليه يمكن أن تكون فعّالة مثل عمليات الزرع الأصلية.

وقال جوبتا: "تبرهن حالات برلين ولندن ودوسلدورف أن هذا النهج قابل للتكرار؛ ولكنه أشبه بانتصار رمزي، لأنه ليس خيارًا للجميع".

ما مدى إمكانية تكرار حالات لندن وبرلين ودوسلدورف؟

إن متبرعي نخاع العظم المحتملين والمؤهلين من حاملي الطفرة الجينية CCR5، ومن ثم المقاومين للإصابة بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية، لا يمثّلون سوى 1% فقط من سكان شمال أوروبا. فعلى سبيل المثال، لم يجري العثور على الطفرة لدى الأشخاص المنحدرين من أفريقيا أو شرق آسيا. وما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن المتبرعين لا بد أن يكونوا حاملين لطفرة زيجوت متماثل الألائل؛ أي يجب أن يكونوا قد ورثوا نسخة من الطفرة النادرة من كلا الوالدين.

هل يمكن للملايين من مرضى فيروس نقص المناعة البشرية استبدال خلاياهم المصابة باستخدام هذا النوع من العلاج بالخلايا الجذعية؟ الإجابة المختصرة هي أن ذلك ليس ممكنًا بالنسبة لمعظم المرضى.

يقول أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في الولايات المتحدة: "أرى أنه من المستحيل اعتباره علاجًا عامًا للمصابين بفيروس نقص المناعة البشرية لأن الأشخاص الذين زُعم تعافيهم من المرض كانوا مصابين جميعهم باللوكيميا [و] سرطان الغدد الليمفاوية الكامنين؛ حيث اقتضت اللوكيميا علاجًا كيميائيًّا، بالإضافة إلى زرع الخلايا الجذعية وكبت المناعة لمنع رفضها، وبالتالي، فإن العملية نفسها كانت خطيرة للغاية". وأضاف: "لا يمكن إجراء ذلك لشخص إلا إذا كان بحاجة إلى عملية زرع لسبب آخر".

وقد اتفق معه في الرأي إسلام حسين، عالم الفيروسات والباحث في اكتشاف العقاقير وكبير العلماء في شركة «مايكروبيوتكس» Microbiotix، فيما يخص أن هذا النوع من زرع الخلايا الجذعية لا يمكن أن يصبح الطريقة المُثلى لمعظم المرضى. وقد صرح قائلاً: "[إنه] إجراء مكلف للغاية ومحفوف بالمخاطر قد يكون له ما يبرره فقط لمرضى فيروس نقص المناعة البشرية المصابين أيضًا بسرطان الغدد اللمفاوية. إن لدينا بالفعل ترسانة من علاجات فيروس نقص المناعة البشرية الآمنة والفعالة وميسورة التكلفة".

وعندما سئل هوتر نفسه عمّا إذا كان العلاج بالخلايا الجذعية يمكن أن يرقى إلى مستوى الآمال المعقودة عليه كعلاج محتمل شافٍ للأبد من فيروس نقص المناعة البشرية، أجاب: "ليس في إطار ما قمنا به في حالة تيموثي براون".

وقد أكد هوتر على أن زرع الخلايا الجذعية من المتبرعين المتوافقين "ليس خيارًا لمرضى فيروس نقص المناعة البشرية غير المصابين بالسرطان"، مضيفًا أن "معدلات الاعتلال والوفيات المرتبطة بالعلاج مرتفعة للغاية. أما التطوّرات الجديدة فتستخدم خلايا ذاتية المنشأ (من المريض نفسه) أو خلايا خَيْفِّية معالَجة (من شخص آخر) لها آثار جانبية أقل بكثير". 

وفي ورقة بحثية تقيِّم 30 عامًا من العلاج بالخلايا الجذعية لدى مرضى فيروس نقص المناعة البشرية، أكد هوتر أنه من المستبعد أن يحقق العلاج القضاء التام على الفيروس؛ إذ يظل فيروس نقص المناعة البشرية موجودًا في جيوب الخلايا، وتصبح الخلايا البَلْعَميّة (البلاعم) المصابة مستودعات ثابتة للفيروس. ولهذا السبب لا تتمكن العلاجات بمضادات فيروسات النسخ العكسي من إتمام المهمة أبدًا.

مسارات بديلة لعلاج فيروس نقص المناعة البشرية والوقاية منه

صرّح فاوتشي بأن هناك تدخلات إجرائية أقل خطورة وأكثر واقعية قيد التطور حاليًا، مثل اكتشاف أن مزج الأجسام المضادة المحايدة لفيروس نقص المناعة البشرية من النوع الأول HIV-1 على نطاق واسع يمكنه أن يحل محل مضادات فيروسات النسخ العكسي، وقد يؤدي إلى خمود المرض لفترة أطول.

وأضاف: "لدينا أجسام مضادة وحيدة النسيلة –تُحيّد الأجسام المضادة على نطاق واسع– يمكن تعديلها وراثيًا بحيث تدوم لفترة طويلة جدًا. فإذا أمكن إجراء النقل السلبي لمجموعة من الأجسام المضادة الموجَّهة ضد الفيروس، عندئذ نتوقع بشدة إمكانية إيقاف العلاج بمضادات فيروسات النسخ العكسي، واستدعاء المريض كل أربعة إلى ستة أشهر فحسب للحصول على تسريب وريدي للأجسام المضادة ". وأوضح فاوتشي أنه بعد مرور عام أو أقل، ربما لا يحتاج الشخص إلى مزيد من عمليات النقل السلبي للأجسام المضادة.

ويعد علاج تقوية المناعة، الذي يستهدف الخلايا التائية بالجهاز المناعي، خيارًا محتملًا آخر رغم أنه لا يزال قيد الدراسة على الحيوانات. يعدل هذا العلاج المُعتمِد على الخلايا التائية، الذي اكتشفه سكوت كيتشن، العالم في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس وفريقه، الخلايا الجذعية المكوِّنة للدم مع تطعيمها بأمان في نخاع العظام.

يمكن لهذا العلاج أن يقي من ارتدادات المرض عن طريق تدمير الخلايا المصابة بفيروس نقص المناعة البشرية التي ربما تعاود الظهور بعد العلاج بشهور أو أعوام. 

ركزت دراسة نُشرت في شهر سبتمبر الماضي على الخلايا البَلْعَميّة التي تُعتبر مستودعات خاملة لفيروس نقص المناعة البشرية. تساعد هذه المستودعات الفيروس على البقاء على قيد الحياة وعلى العودة للظهور في وقت لاحق، وعادةً ما تكون سماتها أرقى من جزيئات الحمض النووي الريبي الطويلة غير المشفّرة LncRNAs))، وهي نُسج وخلايا ذات نمط جيني محدد. وقد صرّح طارق رنا، العالم الرئيس للدراسة – وفقًا لتقرير صحفي صادر عن جامعة كاليفورنيا بسان دييجو – أنه بإجراء تعديل وراثي لجزيئات الحمض النووي الريبي الطويلة غير المشفّرة في الخلايا البَلْعَميّة المصابة بفيروس نقص المناعة البشرية، ربما قاد العلماء لإيجاد "المفتاح الرئيسي" الذي كانت أبحاث فيروس نقص المناعة البشرية تبحث عنه لمدة ثلاثة عقود".

 تُجرى أيضًا دراسات أخرى حول العلاج بالخلايا الجذعية وتعديل الجينات من أجل علاج فيروس نقص المناعة البشرية، لكن فاوتشي أوضح أنها "ما زالت حتى الآن في المرحلة التجريبية، وعليه، لا يمكن حقًا الجزم باستخدامها العملي بعد".

 وقد أوضح قائلاً: "من المستحيل وضع جدول زمني أو التنبؤ بما إذا كان سيكون لدينا علاج حقيقي لاجتثاث الفيروس من الجسم. وفي الواقع، أتصور أن القيام بذلك من ضروب المستحيل". 

لكن هذا ليس خبرًا سيئًا بالضرورة؛ فقد قال فاوتشي إن العلم قد أصبح في الواقع أقرب من أي وقت مضى إلى التخلص من الحاجة اليومية إلى حبوب مضادات فيروسات النسخ العكسي. ويقول هوتر إنه: "من خلال التعديلات، مع مزج العلاج الجيني والمصادر ذاتية المنشأ، أعتقد بشدة أن نوعًا من علاجات الخلايا سوف يؤثر على فيروس نقص المناعة البشرية في المستقبل".

References

  1.  Gupta, R.K. et al. HIV-1 remission following CCR5Δ32/Δ32 haematopoietic stem-cell transplantation Nature 568, 244-248 (2019)| article

أقرأ أيضا