25 أكتوبر 2021
ليس من المستغرب أن تشعر بأنك أكبر من عمرك الحقيقي، لكن هذا الشعور ينطبق على بعض الأشخاص بشكل أكبر مما يظنون. فالأدلة تتزايد على أن الإصابة ببعض الأمراض العقلية، مثل الاكتئاب، ترتبط على نحو ما بجعل دماغ المصاب يشبه دماغ شخص مسن. ولكن هل يتسبب الاكتئاب في شيخوخة الدماغ المبكرة؟ أم أن شيخوخة الدماغ المبكرة تسبق حدوث المرض؟
يستعين الباحثون بواسمات فيزيائية وخلوية وجزيئية لتقدير "العمر البيولوجي" للإنسان، كما يحاولون استخدام تلك الأدوات لفهم العوامل التي تجعل العمر البيولوجي لبعض الأشخاص مختلفًا عن عمرهم الفعلي. تُعتبر الدراسات المعنية بتسارع حدوث شيخوخة الدماغ فرعًا من أفرع هذا المجال البحثي. ويمكن تقدير العمر الزمني للفرد من خلال إجراء قياسات للدماغ، فعندما يتجاوز الإنسان سن الثلاثين يبدأ الدماغ في التدهور ببطء على مدار ما تبقَّى من عمره. ويتجلَّى هذا التدهور في هيئة تغيرات ملموسة، مثل ضمور المادة الرمادية، كما يظهر كذلك في صورة تغيرات وظيفية، مثل التراجع في مرونة القدرات الإدراكية والذاكرة وسرعة المعالجة البصرية. لكن بعض الأمور، كالمفردات وبعض المهارات اللغوية، يمكنها الصمود في وجه تقدم الشيخوخة.
مع تسارع حدوث شيخوخة الدماغ لدى الفرد، تظهر تناقضات بين عمره الحقيقي وقياسات الدماغ لديه. قد تكون التغيرات الحادثة طفيفة، لكننا نجد أن دماغ هذا الشخص يبدو من ناحية الشكل والسلوك أقرب إلى دماغ شخص أكبر سنًّا. يعكف بعض الباحثين، مثل كاثرين دنلوب من كلية طب وايل كورنيل بجامعة كورنيل، على كشف العلاقة بين الاكتئاب وتسارع حدوث شيخوخة الدماغ. ففي عام 2021، وبالاشتراك مع فريق من الباحثين من الولايات المتحدة وكندا، نشرت دنلوب ورقة بحثية بخصوص الموضوع في دورية «نيوروسايكوفارماكولوجي» Neuropsychopharmacology. استعان الباحثون في هذه الدراسة بصور لأدمغة أكثر من 700 شخص راشد سليم، واستخدموها في إنشاء نموذج يمكنه تقدير عمر الإنسان. وعندما استُخدم هذا النموذج لتقدير أعمار الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب، كانت الأعمار المقدرة تزيد على أعمار المرضى الحقيقية بعامين في المتوسط.
كما اكتشفت دنلوب وفريقها أن المرضى أصحاب الأدمغة التي تبدو أكبر سنًا كانوا أكثر ميلًا للتصرف باندفاع، وأن الذكور أصحاب الأدمغة التي بدت أكبر سنًا كانوا يعانون من أعراض أشد حدّة. تقول دنلوب: "وجدنا أنه إذا كان الشخص أكثر اندفاعًا في اتخاذ القرارات المالية، فإن مظاهر شيخوخة الدماغ لديه عادةً ما تكون أكثر وضوحًا".
يذكرنا هذا الاكتشاف بدراسة أوسع نطاقًا بكثير أجراها فريق من الباحثين ضمن الاتحاد المعني بالاضطراب الاكتئابي الشديد المعروف باسم «إنيجما» (ENIGMA). وفي إطار هذه الدراسة الضخمة متعددة الجنسيات، والتي كانت على رأسها لورا هان، من المركز الطبي بجامعة أمستردام في هولندا، اكتشف الباحثون باتحاد «إنيجما» وجود اختلافات بنيوية في أدمغة المصابين بالاكتئاب تجعلها تبدو أكبر من سنها الحقيقي بنحو عام.
تقول دنلوب إن الدراسة التي أجراها فريق عمل اتحاد «إنيجما» (ENIGMA MDD) المعني بالاضطراب الاكتئابي الشديد، قد سبقها عدد قليل من الدراسات الأصغر، والتي أسفرت عن "نتائج متباينة لكنها ليست متناقضة تمامًا" بشأن ما إذا كان هناك ارتباط بين الاكتئاب وشيخوخة الدماغ. كما تضيف دنلوب أنه رغم أن بعض الحالات المرضية، مثل الفصام والخرف، تكون مصحوبة بدلائل "واضحة وقاطعة" على تسارع حدوث شيخوخة الدماغ، فإن المسألة تبدو "أكثر التباسًا بعض الشيء" عندما يتعلق الأمر بالاكتئاب. ولكن الدراسة التي أجراها اتحاد «إنيجما» تمثل إسهامًا مهمًا في حسم هذا الجدل، باعتبارها أضخم دراسة تتناول هذا الموضوع حتى تاريخه.
وفي إطار الجهود الرامية إلى تطوير دراسات بشأن تسارع حدوث شيخوخة الدماغ وعلاقته بالاكتئاب، صمّمت هان وفريقها أداةً متوافرة عبر الإنترنت تتيح للمجموعات البحثية الأخرى أن تختبر البيانات الناتجة عن تجاربها الخاصة. تقول هان: "هناك 77 سمة بنيوية للدماغ، مثل السُّمْك، ومساحة السطح، وأحجام أجزاء الدماغ". ومن ثم، إذا توافرت لأي فريق بحثي آخر هذه القياسات من التجارب التي يجريها، يمكن أن يدخلها في هذه الأداة التابعة للاتحاد، والتي ستصل بدورها إلى تقدير عمر دماغ الإنسان.
تضيف دنلوب أنها تعتقد أن أبحاث شيخوخة الدماغ تُعتبر نموذجًا ممتازًا على نجاح الجهود البحثية الجماعية، إذ تقول: "تتجسد روح التعاون في كثير من دراسات شيخوخة الدماغ، لأن هذه الدراسات تحتاج إلى وفرة من البيانات وإلى تعدد المصادر. وتُعدّ الدراسة التي أجراها اتحاد «إنيجما» مثالًا وجيهًا على ذلك".
تقول هان إنه من السابق جدًا لأوانه تقرير ما إذا كانت القدرة على رصد تسارع حدوث شيخوخة الدماغ أو التنبؤ بها يمكن أن تكون مفيدة للمرضى. بيد أن إحدى "الرسائل التي تبعث على الأمل"، طبقًا لكلام هان، وجود كثير من التباين والتداخل بين البيانات المُستخلَصة من أدمغة الأشخاص الأصحاء بالمجموعات الضابطة و أدمغة المصابين بالاكتئاب، وأن الدراسة التي أجراها اتحاد «إنيجما» قد وجدت أن متوسط الانحراف بين الأشخاص الأصحاء وهؤلاء المصابين بالشيخوخة المبكرة للدماغ يزيد بالكاد على عام واحد. وتضيف دنلوب أن هناك عوامل أخرى تؤثر تأثيرًا جمًّا في القياسات السلوكية والبنيوية المرتبطة بشيخوخة الدماغ، مثل جنس الشخص وحالته الاجتماعية والاقتصادية.
وقد استطاعت دنلوب وفريقها استخلاص النتائج من البيانات المتوفرة في دراستهم، إذ خضع جميع المشاركين في الدراسة لعلاج الاكتئاب عن طريق التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة ( TMS). تشرح دنلوب قائلةً: "كانت الدراسات السابقة تفيد بأنه "إذا كنت أكبر سنًا، فالعلاج [بالتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة] لن يجدي نفعًا معك". ولكننا نعرف الآن أن المسألة ليست كذلك، بل إن الضمور البنيوي للدماغ يزيد من المسافة بين مصدر التحفيز والمنطقة المستهدفة في الدماغ، وهو أمر يمكن التغلب عليه بعملية ضبط بسيطة للأجهزة المستخدمة". وفي حين أن الدراسة التي أجرتها دنلوب لم ترصد أي علاقة مهمة بين تسارع حدوث شيخوخة الدماغ والاستجابة للعلاج بالتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة، فإن المدهش كان اكتشاف الفريق أن الأدمغة التي تبدو أكبر من عمرها الحقيقي تستجيب على نحو أفضل للتحفيز الوهمي، أي ذلك الذي لا يتضمّن علاجًا حقيقيًا.
ولا تزال الدراسات جارية على كل حال، إذ نشرت هان وزملاؤها بحثًا لاحقًا للبحث السابق يوضِّح أن الأدوية المضادة للاكتئاب لها تأثير وقائي محتمل للخلايا العصبية، مما ينعكس على عمر الدماغ. وتتواصل في الوقت الراهن الجهود البحثية، كتلك التي تقوم بها هان ودنلوب، سعيًا وراء الكشف عن جوانب العلاقة بين الاكتئاب وشيخوخة الدماغ.
بحسب ما تقول دنلوب، يتمثل أحد الأسئلة المحورية التي تطرحها تلك الأبحاث في محاولة فهم أي الظاهرتين تحدث أولًا، ومن ثمَّ أي الظاهرتين تتسبب في الأخرى: الاكتئاب أم شيخوخة الدماغ؟ تقول دنلوب: "هذا هو السؤال المحوريّ، وأظن أننا لم نتوصل إلى الإجابة عنه بعد".
غير أن العلاقة تكون أكثر وضوحًا في بعض الحالات المرضية الأخرى، إذ تتبَّعت دراسة سابقة حالات لأشخاص يعانون من خلل بسيط في القدرات الإدراكية، وتبين أن شيخوخة الدماغ يمكن أن تتنبأ باحتمالات تطور حالة هؤلاء الأشخاص إلى الخرف التام. بالإضافة إلى ذلك، فلدينا أمثلة تشير إلى أن شيخوخة الدماغ تسبق تشخيص الشخص بأمراض معينة، أما في ما يتعلق بالاضطرابات النفسية، فالموضوع أعقد كثيرًا، "ويُحتمل ألا تكون العلاقة أحادية الاتجاه"، بحسب ما تقول دنلوب. فمن المرجّح أن الاكتئاب وشيخوخة الدماغ يؤثر كل منهما في الآخر، وأن كليهما ينطوي على آليات التوتر والالتهاب المزمن.
تقول دنلوب: "كأننا نبحث قضية البيضة أم الدجاجة جاءت أولًا؟ وهذه معضلة حقيقية. والإجابة عن تلك الأسئلة تحتاج إلى كثير من الوقت والمال".
References
- Dunlop, K. et al. Accelerated brain aging predicts impulsivity and symptom severity in depression. Neuropsychopharmacology (2021) | article
- Han, L.K.M. et al. Brain aging in major depressive disorder: results from the ENIGMA major depressive disorder working group. Molecular Psychiatry (2020) | article