دور أقنعة الوجه في مكافحة جائحة كوفيد-19

تُعد الدراسات التي تتناول تحديدًا تقييم العلاقة بين ارتداء أقنعة الوجه وانتقال مرض كوفيد-19 دراسات محدودة، غير أن الأدلة العلمية ذات الصلة تشير إلى أنه حتى الأقنعة القماشية البسيطة يمكن أن تُحدِث فارقًا.

قراءة

Ales_Utovko/ iStock / Getty Images Plus

أصابت جائحة «كوفيد-19» العالم بغتة، وهو ما أشعل فتيل نقاشات محمومة بخصوص كيفية استجابة الحكومات للجائحة. ولعل أكثر هذه النقاشات إثارة للحيرة والخلاف هو ما يتعلق باستخدام أقنعة الوجه، إذ يوجّه العلماء ورجال السياسة رسائل متناقضة.

أوصت منظمة الصحة العالمية (WHO) في البداية بأن العاملين في مجال الرعاية الصحية ومرضى «كوفيد-19» هم فقط من يتحتم عليهم ارتداء الأقنعة الطبية؛ وهي نصيحة رحَّبت بها الحكومات التي كان يساورها القلق بشأن نفاد معدات الوقاية الشخصية لديها. وفي الوقت نفسه، شجّعت الحركات التي تقودها عامة الجماهير على استخدام الأقنعة القماشية البسيطة -حتى إن كانت مُصنَّعة في المنازل باستخدام المناديل أو أقمشة القمصان- باعتبارها حواجز فعالة للتصدي لفيروس «سارس-كوف-2» SARS-CoV-2 المُسبِّب لمرض «كوفيد-19».

وفي نهاية المطاف، أصدرت منظمة الصحة العالمية في الخامس من يونيو من العام الماضي توصية جديدة مفادها أنه يجب على العامة ارتداء أقنعة قماشية غير طبية في الأماكن التي لا يمكن تحقيق التباعد الجسدي فيها بمسافة متر واحد على الأقل، مثل المتاجر1. وقد طُبِّقت هذه الإرشادات في أغلب بلدان العالم كإجراء وقائي إضافي مع بدء تحرر المجتمعات من القيود المفروضة في أثناء فترة الإغلاق.

وفي وقت مبكر من شهر يوليو، أعلنت وزارة الصناعة في المملكة العربية السعودية خططًا لزيادة إنتاجها من أقنعة الوجه من 2.5 مليون إلى عشرة ملايين قناع يوميًا2. وكان ذلك القرار يشير بقوة إلى أن أقنعة الوجه ستلعب دورًا أساسيًا في "عودة الحياة إلى طبيعتها" في المملكة، مما يتيح للمواطنين حضور حفلات الزفاف، والجنازات، وزيارة صالونات التجميل.

غير أن عديدًا من الأسئلة العلمية يظل دون إجابة، ومن بينها: ما مدى فاعلية الأقنعة القماشية مقارنة بالأقنعة الطبية المُصمَّمة خصيصًا لمعدات الوقاية الشخصية؟ وهل يمكن تعقيم الأقنعة وإعادة استخدامها؟ وهل تحمي الأقنعة من يرتديها، أم تحمي فقط مَنْ هم حوله؟

وتتمثل إحدى نقاط الخلاف الرئيسية في أنه لم يكن ثمة وقت كافٍ لتجميع المعيار الذهبي المرجعي من الأدلة العلمية؛ وهو إجراء تجارب عشوائية قابلة للتكرار باستخدام مجموعات ضابطة وخاضعة لمراجعة الأقران لاختبار أقنعة الوجه تحديدًا في مواجهة فيروس «سارس-كوف-2»3. أشارت بعض المجموعات البحثية إلى بيانات لأعداد صغيرة من المرضى تُبيِّن أن الأقنعة قد حجبت نسبة كبيرة من الحِمل الفيروسي، غير أن هذه النتائج لا يمكن اعتبارها حاسمة إلى أن تخضع لعملية مراجعة شاملة.

يقول إسلام عنان، اختصاصي علم وبائيات الدواء والرئيس التنفيذي لشركة Accsight (حلول الرعاية الصحية المتكاملة)، والمحاضر في كلية الصيدلة بجامعة عين شمس بالقاهرة: "لقد ثبت علميًا أن ارتداء أفراد المجتمع المُعرَّضين للخطر أقنعة وجه عالية الجودة سوف يقلل إلى حد كبير من انتشار أي فيروس تنفسي ينتشر عبر الرذاذ".

ويضيف عنان: "يتمثل الدليل الأكثر أهمية على أن ارتداء الأقنعة يمكن أن يكون وسيلة لإيقاف الجائحة في مراجعة منهجية نُشرت في دورية «ذا لانست» 4The Lancet إذ قدمت تحليلًا لـ 216 دراسة عامة تضمنت أكثر من 25 ألف حالة من حالات «كوفيد-19»، وسارس، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية. وكانت جميع الدراسات تجزم بأن ارتداء أقنعة وجه عالية الجودة يساعد على الوقاية من الإصابة بالعدوى، ولا سيما إذا كان هذا مقترنًا بحماية العينين". ويشير عنان أيضًا إلى دراسات نمذجة وبائية مهمة6،5 تدرس مدى تأثير السيناريوهات المختلفة، وتفاوت جودة الأقنعة، والنسبة المئوية لعدد السكان الذين يرتدون الأقنعة. ويردف عنان قائلًا: "تُبين هذه الدراسات الشاملة بوضوح أن الأقنعة سوف تقلل من معدل الإصابة بالعدوى".

في الوقت الحاليّ، أفضل خيار لدينا النظر في الأعمال البحثية المُثبتة بخصوص تأثير الأقنعة مع فيروسات أخرى، مثل فيروس الإنفلونزا، الذي يماثل حجمه إلى حد بعيد حجم فيروس «سارس-كوف-2». وكانت الدراسات المختبرية ودراسات النمذجة قد وجدت أن الأقنعة يمكن أن تكون أدوات فعالة في مكافحة وباء ما عبر منع نسبة كبيرة من الحِمل الفيروسي لفيروس الإنفلونزا من الخروج من فم مُرتدي القناع7، رغم قلة الأدلة التي تشير إلى أنها تحمي مرتدي القناع نفسه8. كذلك فإن الأقنعة المصنوعة منزليًا حجبت عددًا أقل من فيروسات الإنفلونزا مقارنة بمثيلاتها من الأقنعة التجارية، لكنها كانت بالتأكيد أفضل من عدم استخدام أي وسيلة وقاية9.

ومن المخاطر الأخرى التي يمكن لأقنعة الوجه أن تقي منها تلوث الهواء، لا سيما الجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر، والتي تبقى عالقة في الهواء فترات طويلة ويمكنها أن تنفذ إلى أعماق الرئتين. وعندما كتب 239 عالمًا مجموعة من التعليقات العلمية في أوائل يوليو الماضي يحثون فيها منظمة الصحة العالمية على الإقرار بالأدلة المتزايدة على أن كثيرًا من الرذاذ المجهري الذي يحتوي على فيروس «سارس-كوف-2» القابل للحياة يمكن تصنيفه بأنه هباء جوي (أيروسولات)، أصبحت الحماية من هذه الجسيمات الدقيقة أمرًا بالغ الأهمية10. تتسم تلك الجسيمات بخفة وزنها لدرجة تجعلها قادرة على البقاء في الهواء على مسافة تتجاوز عشرات الأمتار، وهو ما يسهم في تعقيد جهود التباعد الاجتماعي إلى حد كبير.

دعم متزايد

 تتضمن التجارب المختبرية ضخ هواء ملوث عبر أقنعة من أنواع مختلفة، وأوضحت أن بعض الأقنعة ذات المعايير الاحترافية يمكنها حجب ما يصل إلى 99% من الجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر10,11,12. أما الاختبارات التي أجريت على الأقنعة القماشية فهي محدودة، لكن إحدى الدراسات12 أوضحت أن منديلًا قطنيًا رقيقًا يمكنه أن يحجب أكثر من 28% من تلك الجسيمات الدقيقة.

قد تبدو هذه النسبة سيئة، لكن هذه الاختبارات تقلل إلى حد كبير من أهمية فاعلية الأقنعة لعدة أسباب. أولًا، تقيس أجهزة الكشف المستخدمة في مثل هذه الدراسات جسيمات أصغر بعشر مرات من فيروس «سارس-كوف-» ذاته. ثانيًا، أغلب الأقنعة القطنية أكثر سمكًا من منديل واحد مفرد. إضافة إلى ذلك، فإن أغلب الرذاذ الخارج من أفواه الأفراد أكبر حجمًا من الجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر، كما أن الأيروسولات المثيرة للمشكلات تنشأ من رذاذ أكبر حجمًا يتبخر بمجرد ابتعاده عن الفم بمسافة كافية.

ولعل الدليل الأقوى على فاعلية استخدام الأقنعة في ظروف الجائحة الحالية ما أسفرت عنه الدراسات الوبائية لبيانات «كوفيد-19» على صعيد الولايات13 أو الدول14. ويشير تحليل إحصائي نُشر في شهر أغسطس الماضي إلى نتيجة مُذهلة مفادها أنه "في الدول ذات الأعراف الثقافية أو السياسات الحكومية التي تشجع على ارتداء أقنعة الوجه في الأماكن العامة، ارتفع معدل الوفيات الناتجة عن فيروس كورونا للفرد في المتوسط ​​بنسبة 15.8% فقط أسبوعيًا، مقارنة بنسبة تبلغ 62.1% أسبوعيًا في بقية الدول".

وفي ضوء هذه النتائج، جعل عديد من الحكومات ارتداء الأقنعة إلزاميًا في المواقف الحياتية المختلفة، وشرعت في البحث عن وسائل لتعقيم الأقنعة وإعادة استخدامها حتى لا ينفد مخزونها لديها، أو تؤدي إلى  مشكلات متعلقة بالنفايات. وتشير ورقة بحثية نُشرت مؤخرًا إلى أن أكثر الوسائل الواعدة لتعقيم الأقنعة ضد فيروس «سارس-كوف-2» هي تلك التي تستخدم بخار بيروكسيد الهيدروجين، أو الأشعة فوق البنفسجية، أو الحرارة الرطبة، أو الحرارة الجافة، أو غاز الأوزون، في حين لا يُنصَح بالوسائل الأخرى مثل الغسل بالماء والصابون أو الكحول15.

وربما يقع فعلاً عبء الإثبات في المناقشة الدائرة بشأن الأقنعة على عاتق من يعترضون على استخدامها؛ ففي نهاية الأمر، يبدو من البديهي أن وضع أي حاجز أمام الفم سيمنع على الأقل بعض الرذاذ الذي يحمل العدوى. والأهم من ذلك أنه لا توجد دراسات علمية توصلت إلى أدلة تثبت أن الأقنعة يمكن أن تزيد من احتمالات إصابة أي شخص بالعدوى.

ومن ثمَّ، فإن الحجج المنطقية الوحيدة في الوقت الحاليّ ضد استخدام أقنعة الوجه، حجج اجتماعية، وسياسية، واقتصادية. فعلى سبيل المثال، قد يشعر بعضهم بالخجل أو بالوصمة الاجتماعية عند ارتداء الأقنعة، مما يقلل من فرص زيارتهم للمتاجر والمساهمة في تعافي بلدانهم اقتصاديًا. وقد لوحظ هذا السلوك في أوبئة سابقة، وهو يدعم فكرة أن ارتداء الأقنعة هي السياسة الأفضل للجميع على مستوى العالم. وبهذه الطريقة، يمكن أن يكون القناع بادرة إيجابية للتضامن في المجتمع، وليس علامة يوصم بها الشخص المريض.

ومن ناحية أخرى، قد يفتخر بعض الأشخاص بارتدائهم أقنعة تمنحهم شعورًا زائفًا بالأمان، ومن ثمَّ يتجاهلون التدابير الاحترازية الأخرى مثل التباعد الجسدي وغسل اليدين.

تمس هذه المعضلة مجالًا مثيرًا للاهتمام في علم النفس يُسمَّى تعويض المخاطر، وينشأ غالبًا عندما تُطرَح قوانين جديدة للسلامة. فعلى سبيل المثال، إذا أجبرنا الأشخاص على ارتداء الخوذات عند ركوب الدراجات النارية وربط أحزمة الأمان في السيارات، فهل سيكونون أكثر تهورًا في القيادة لأنهم يعتقدون أنهم لا يمكن أن يتعرضوا للأذى؟ تُبيِّن الدراسات التي أُجريت على هذه المواقف أنه في حين أن بعض الأفراد قد يتجهون إلى الإقدام على مزيد من المخاطر، فإن سلوك المجتمع ككل يطغى على سلوكيات هذه القلة، وهو ما يؤدي إلى تحسين أوجه السلامة والرخاء بشكل عام16.

وهنا يكمن جوهر المسألة، فالإجراءات الصغيرة -إذا طُبّقت على نطاق واسع- يمكنها أن تحقق فوائد كبيرة للمجتمع ككل. ولا شك أن أقنعة الوجه ليست الترياق الذي سيقضي على جائحة «كوفيد-19»، لكنها في الوقت نفسه ليست عبئًا كبيرًا لا يمكن للأفراد تحمله. ربما يبدو الأمر غريبًا بالنسبة لأولئك الذين لم يسبق لهم أن عاصروا وباءً من قبل، لكن ارتداء غطاء بسيط للوجه من الممكن أن ينقذ الأرواح بالفعل.

يقول عنان: "أقنعة الوجه خط الدفاع الأول للتصدي لجائحة «كوفيد-19»، إلى جانب وقاية العينين، والتباعد الاجتماعي، وغسل اليدين. وهي الحل الوحيد لدينا الآن إلى أن تتوافر لقاحات أو علاجات شديدة الفاعلية، كما أنها تُعد ضرورة حتمية بعد إعادة فتح الاقتصادات لتجنب أي قفزة في أعداد المصابين".

References

  1.  World Health Organization. Advice on the use of masks in the context of COVID-19. (5 June 2020) | article
  2. Saudi Arabia plans to produce 10 million masks daily | article
  3. Howard, J. et al. Face masks against COVID-19: An evidence review. PNAS (April 2020) | article
  4. Chu, D.K et al. Physical distancing, face masks, and eye protection to prevent person-to-person transmission of SARS-CoV-2 and COVID-19: a systematic review and meta-analysis. The Lancet 395, 1973-1987 (2020). | article
  5. Eikenberry et al. To mask or not to mask: Modeling the potential for face mask use by the general public to curtail the COVID-19 pandemic. Infectious Disease Modelling 5, 293-308 (2020) | article
  6. De Kai et al. Universal Masking is Urgent in the COVID-19 Pandemic: SEIR and Agent Based Models, Empirical Validation, Policy Recommendations. Physics and Society | article
  7. Brienen N.C. et al. The effect of mask use on the spread of influenza during a pandemic. Risk Anal. 30, 1210-1218 (2010) | article
  8.  Cowling B.J. et al. Face masks to prevent transmission of influenza virus: a systematic review. Epidemiol Infect. 138, 449-456 (2010) | article
  9. Davies A. et al. Testing the efficacy of homemade masks: Would they protect in an influenza pandemic? Disaster Med Public Health Prep. 7, 413-418 (2013) | article
  10. Morawska, L. & Milton, D.K. It is time to address airborne transmission of COVID-19. Clinical Infectious Diseases, ciaa939 (2020)  | article
  11. Cherrie JW, et al. Effectiveness of face masks used to protect Beijing residents against particulate air pollution. Occup Environ Med. 75, 446-452 (2018) | article
  12. Langrish JP, et al. Beneficial cardiovascular effects of reducing exposure to particulate air pollution with a simple facemask. Part Fibre Toxicol. 6 (2009) | article
  13. Lyu, W. & Wehby, G.L. Community use of face masks and COVID-19: Evidence from a natural experiment of state mandates in the US. Health Affairs 39 (2020) | article
  14. Leffler, C. et al. Association of country-wide coronavirus mortality with demographics, testing, lockdowns, and public wearing of masks. medRxiv | article
  15. Carlos Rubio-Romero J. et al. Disposable masks: Disinfection and sterilization for reuse, and non-certified manufacturing, in the face of shortages during the COVID-19 pandemic. Saf Sci. 129, 104830 | article
  16. Pless, B. Risk compensation: Revisited and rebutted. Safety 2, 16 (2016) | article

 

أقرأ أيضا

الوضع العام للصحة النفسية في المملكة العربية السعودية

تعزيز الرفاه وتحسينه في أثناء جائحة «كوفيد-19»، مع الحدِّ من الوصم المرتبط بالمرض النفسي.

الجائحة تنال من كافة الأعمار

 أبحاثٌ أُجريت مؤخرًا تُوضِّح تأثير الجائحة العالمية في الأُسَر التي يعاني بعض أفرادها من اضطراب ما بعد الصدمة والتوحد.

 تطعيم الكبار ضد الأمراض البكتيرية

على الرغم من أن برامج تطعيم الأطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خفضت بدرجة كبيرة من انتشار الأمراض التي يمكن الوقاية منها، فإن برامج تطعيم الكبار لا تزال متعثرة.