نصرٌ للعلم: احتدامُ السباق نحو تطويرِ لقاحاتِ "كوفيد-19"

العالمُ ينجحُ في تطوير لقاحات "كوفيد-19" في زمنٍ قياسي بفضل الاستجابة الدولية غير المسبوقة من الباحثين وجهات التمويل والهيئات الرقابية

قراءة

Jonny Weeks/The Guardian - Pool/Getty Images

في كلمته الافتتاحية أمام "منتدى لقاحات كوفيد-19" الذي استضافه مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية (كيمارك) في شهر نوفمبر 2020، صرَّح بالي بوليندران، الأستاذ بجامعة ستانفورد، أن السرعةَ التي طُوِّرت بها لقاحات "كوفيد-19" أثارت "إعجابه الشديد". وأوضح بوليندران كيف أن المراحل العديدة لأبحاث اللقاحات، والتجارب المرتبطة بها، وموافقة الهيئات الرقابية عليها، والتصنيع واسع النطاق لها، غالبًا ما كانت تستغرق في السابق 10 سنوات أو أكثر. ولكن في حالة "كوفيد-19"، بدأت أولى عمليات التطعيم باللقاحات على نطاقٍ واسع في الثامن من ديسمبر 2020؛ أي بعد مرور أقل من عام على إبلاغ منظمة الصحة العالمية بأول حالة إصابة بالمرض.

وفي هذا المنتدى الذي شارك  كيمارك في تنظيمه، لخَّص أدريان هيل، الأستاذ بجامعة أكسفورد، العوامل الأساسية التي تقف وراء النجاح المذهل لما وصفه بأنه "أعظم تجربة عالمية أُجريت على الإطلاق في مجال تكنولوجيا اللقاحات". وشدَّد على التعاون غير المسبوق الذي شارك فيه الآلافُ من مختلف المتخصصين على مستوى العالم، إذ ركَّز الجميع اهتماماتهم متعددة التخصصات على هدف واحد. لقد عملوا بسرعة قياسية لتحديد تسلسل الجينوم الفيروسي، وتحليل بنيته، واستكشاف خيارات تطوير اللقاحات.

انتقل هيل بعد ذلك إلى الحديث عن الدور الذي لعبته مستوياتُ التمويل غير المسبوقة من جانب الحكومات والهيئات الأخرى، قائلًا إن تلك هي المرة الأولى في حياته المهنية التي يُتاح فيها "تمويلٌ غير محدود" تقريبًا. كما تحدث عن استعدادٍ جديد أبدته الهيئات الرقابية للعمل بوتيرةٍ أسرع من المعتاد، وهو ما يُعدُّ، في رأيه، أحد الدروس الرئيسية المُستفادة في ما يتصل بتطوير اللقاحات مستقبلاً. وأوضح هيل أنه لا توجد هيئة رقابية عالمية واحدة للقاحات، وأن وجود هيئةٍ كهذه من شأنه أن يعمل على تبسيط العملية الحالية المُرهِقة المتمثلة في التعامل مع الهيئات الرقابية في البلدان المختلفة، والتي تتبنى في كثيرٍ من الأحيان وجهاتِ نظرِ مختلفة بخصوص البيانات السريرية ذاتها.

وقد أمكن تسريعُ عملية البحث الأساسي الحاسمة ذاتها بفضل الاستعداد الجيد لدى الباحثين استنادًا إلى الأبحاث المتوافرة والطبيعة المُستجدة للقاحات الأولى. فعوضًا عن الأسلوب التقليدي المتمثل في إعطاء المصابين البروتينات الفيروسية مباشرةً، تعتمد اللقاحاتُ الجديدة على الحمض النووي الريبيأو الحمض النووي الذي يُصدِر الأوامر لخلايا الجسم بتصنيع جزءٍ  أساسي من البروتين الشوكي الموجود في غلاف الفيروس لديه القدرة على توليد استجابات مناعية. ويقول الباحثون الذين يعكفون على إنتاج هذه اللقاحات إنهم تمكَّنوا من  تطويرها بسرعة، ويرجع ذلك في جانبٍ منه، إلى أنهم يمتلكون بالفعل التقنية اللازمة لتخليق الحمض النووي الريبي أو الحمض النووي بالتسلسل المطلوب على نحوٍ سريعٍ وروتيني. ولم يكن قد سبق التصريحُ من قبل باستخدام لقاحات الحمض النووي الريبي والحمض النووي مع  البشر، على الرغم من استخدامهما في التطبيقات البيطرية وفي عديد من التجارب المختبرية على الحيوانات.

يَستخدم كلٌ من لقاح "فايزر/بيونتيك" Pfizer/BioNTech  ولقاح "موديرنا" Moderna  جزيئاتٍ  تخليقية أحادية الشريط من الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA) تحتوي على التعليمات الجينية لحثِّ خلايا الجسم مباشرةً على تصنيع البروتينات المحفِّزة للمناعة. ويحقق لقاح "أكسفورد-أسترازينيكا" Oxford-AstraZeneca نتيجةً مماثلةً باستخدام الحمض النووي مزدوج الشريط، الذي يُنسَخ إلى الحمض النووي الريبي المرسال عن طريق النشاط الأيضي الطبيعي داخل الخلية. ويُشير فريق جامعة أكسفورد إلى أن الحمض النووي أقوى من الحمض النووي الريبي المرسال، وأن الغلاف البروتيني المتين للفيروس الغُدِّي يُساعد أيضًا على حماية المادة الجينية الموجودة بداخله، وهو ما يجعل لقاحهم مستقرًا في درجات حرارة أعلى بكثير مقارنةً بما عليه الحال بالنسبة للقاحات القائمة على الحمض النووي الريبي المرسال، وتُعدُّ هذه ميزةً كبيرة.

ويرى الباحثون الذين طوَّروا لقاح "أكسفورد-أسترازينيكا" أن أحد العوامل الرئيسية وراء استجابتهم السريعة هو ما أحرزوه من "سبقٍ" بفضل أبحاثهم التي استمرت سنواتٍ سعيًا للتوصل إلى لقاحاتٍ قائمةٍ على الحمض النووي. فقد أوضحت البروفيسورة سارة جيلبرت -التي صمَّمت اللقاح- أمام المنتدى   أن لقاح "كوفيد-19" يُوصِّل الحمض النووي باستخدام نظامٍ كان قد جرى تطويره بالفعل في مختبرهم. ويحمل فيروسٌ غُدِّي مُعدَّل غير ضار الحمض النووي في لقاحهم. تقول جيلبرت: "لقد استخدمناه في تطوير عديد من اللقاحات المختلفة في الماضي"، وبعضُ هذه اللقاحات كان بالفعل في المرحلة الأولى من التجارب السريرية.

وكل ما يتطلبه تعديلُ هذا النظام متعدد الاستخدامات بما يتلاءم مع مرضٍ جديد هو تغييرُ تسلسل الحمض النووي المراد توصيله. وفضلًا عن الجهود البحثية المُكثَّفة، أتاحت هذه الانطلاقةُ القوية للقاح الانتقالَ إلى التجارب السريرية في شهر أبريل من عام 2020؛ أي بعد انقضاء 104 أيام فقط من تلقي الباحثين للمرة الأولى التسلسل الجيني لفيروس "سارس-كوف-2" المُتسبِّب في مرض "كوفيد-19".

كانت هذه الميزةُ عاملًا رئيسًا كذلك في تسريع إنتاج لقاحي "فايزر/بيونتيك" و"مودرنا". فقد أكدت شركة "فايزر" Pfizer -التي نجحت في تصنيع أول لقاحٍ مضادٍ لمرض "كوفيد-19" يحصل على موافقة الهيئات الرقابية- على أهمية شراكتها مع شركة "بيونتيك" BioNTech الألمانية في مواجهة التحدي بسرعة كبيرة. فيُعتقد أن هذه الشراكة جمعت بين خبرة "بيونتيك" المُتخصصة في تطوير اللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبي المرسال وخبرة "فايزر" الأوسع في تكنولوجيا اللقاحات، والأمور الرقابية، والتصنيع والتوزيع.

و ثَمّن أغلب الباحثين بشدة الجهود السريعة إلى حدٍ استثنائي التي بذلتها الهيئات الرقابية على مستوى العالم بهدف تقييم نتائج التجارب السريرية سريعة المسار، وفي كثير من الحالات، منح تصاريح الاستخدام الطارئ للقاحات التي ظهرت مبكرًا. وتتيح هذه التصاريح استخدام اللقاح استنادًا إلى البيانات الأولية شريطةَ أن يُجرى مزيدُ من الدراسات الاستقصائية بشأن فاعليته  مع المضي قدماً في عمليات التلقيح.

في الأحوال العادية، تُجرى مراحل تجارب اللقاح على نحوٍ مُتتابع، وعادة ما تستغرق عدة سنوات. أما في حالة "كوفيد-19"، فقد سمح ما توفَّر من تمويلٍ هائلٍ فضلًا عن خطورة الوضع بتداخل بعض مراحل التجارب السريرية. وقد أشار الباحثون أيضًا إلى أن العدد الهائل من الإصابات بالعدوى على مستوى العالم أدى إلى تيسير وتسريع إجراء التجارب على كثير من المشاركين في وقتٍ أقصر، مع الحصول، في الوقت ذاته، على أدلةٍ كافية لإثبات الفاعلية.

يقول أدريان هيل: "تُفيد اللقاحاتُ في مكافحة الجوائح، وفي الوقت ذاته، تفيد الجوائح في تطوير اللقاحات". فحقيقة تحوُّل "كوفيد-19" إلى جائحةٍ عالمية بسرعةٍ كبيرة أسهمت في تطوير اللقاحات واختبارها سريعًا. فعلى سبيل المثال، ذكر فريق "أكسفورد-أسترازينيكا" أن لقاحهم "سيكون قد جرى اختباره على قُرابة خمسة أضعاف عدد المتطوعين الذي يتعينُ الوفاء به عادةً قبل التصريحِ باستخدام لقاحٍ معين".

ويدعو هيل أيضًا الهيئات الرقابية حول العالم إلى العمل معًا لتبسيط الإجراءات التنظيمية وتسريعها، التي تُشارك فيها حاليًا عدة هيئاتٍ رقابية وطنية، وما يترتب على ذلك من تعقيداتٍ. ويَعتقدُ أن هذا هو التغيير الجوهري المطلوب من أجل تحسين عملية تطوير اللقاحات مستقبلًا.

وتتفقُ الجهاتُ الفاعلةُ الرئيسية في الأوساط الأكاديمية والصناعية بوجهٍ عام على أن تجربة تطوير لقاحات "كوفيد-19" سيكون لها على الأرجح تأثيرٌ إيجابي في تحسين هذه العملية إلى حد كبير مستقبلًا. وفي حال تبيَّن أن التكنولوجيا الجديدة والأسرع للقاحات القائمة على الحمض النووي الريبي والحمض النووي تمتاز بفاعلية طويلة الأمد، فإن من شأنها أن تُسهِم في تسريع عملية تطوير اللقاحات بوجهٍ عام. صحيحٌ أنه من غير المُحتمل أن يتوفَّر التمويلُ الضخم الذي خُصِّص لتحدي "كوفيد-19" مرة أخرى، ولكن الدرس المستفاد بشأن إمكانية التغلب على العقبات التنظيمية قد يؤتي أُكُلَه أيضًا. إذا استوعبنا هذه الدروس، "سوف يصبح تطوير لقاحاتٍ جديدة في ثلاث سنوات بدلًا من عشر سنوات أمرًا أكثر واقعية"، على حد قول هيل.

References

أقرأ أيضا

ChAdOx1: أكثر من مجرد لقاحٍ لفيروس كورونا

أحدُ لقاحات "كوفيد-19" يعتمد على تقنيةٍ ذات قابلية عالية للتكيُّف ومن شأنها توفير الحماية ضد مجموعة من الفيروسات.  

تقييم فحوصات «كوفيد-19» السريعة 

حوصاتُ مراكز الرعاية تمتاز بالسرعة وسهولة التطبيق العملي أكثر من الفحوصات المخبرية لتفاعل البوليميراز المتسلسل ، لكن الأمر لا يخلو من بعض المحاذير.

متلازمة ميرس ما زالت واسعة الانتشار بين الإبل في المملكة العربية السعودية

دراسة استقصائية لمسالخ الرياض تكشف عن استمرار خطر انتقال العدوى من الحيوانات إلى البشر.