27 سبتمبر 2021
كان لقاح AZD1222 -المعروف باسم لقاح "أكسفورد-أسترازينيكا"- والذي طوَّرته جامعة أكسفورد ومُنح ترخيصه لشركة "أسترازينيكا" AstraZeneca، في صدارة اللقاحات التي ابتُكرت بهدف الوقاية من مرض "كوفيد-19". لقاح AZD1222 يعتمد على ناقلٍ فيروسيٍ غير قابل للاستنساخ، وقد أُجيز للاستخدام الطارئ في عديد من البلدان، غير أنه تقرَّر تعليق استخدامه لاحقًا بسبب ارتباطه بتكوُّن جلطات دموية خطيرة. وفي الوقت الذي نالت فيه التجارب السريرية وإجراءات التصريح باستخدام لقاح AZD1222 تغطيةً صحفية مكثفة، لم يُسلَّط كثيرٌ من الضوء على التقنية الرائدة التي يستند إليها هذا اللقاح، وهو عبارة عن فيروس غُدِّي مُعدَّل جينيًا يُسمى "ChAdOx1"، ويُصيب الشمبانزي.
الناقل الفيروسي
تُهاجم الفيروسات الخلايا المُصابة بالعدوى وتُهيمن عليها وتجبرها على إنتاج نسخٍ من الفيروس نفسه. ولطالما استفاد العلماء من هذه القدرة في إنتاج لقاحات تعتمد على "ناقلات فيروسية" غير قابلة للاستنساخ، إذ يُعدَّل الفيروس جينيًا بهدف الحدِّ من قدرته على التسبِّب في المرض أو تعطيل هذه القدرة نهائيًا، في الوقت ذاته الذي يظل فيه قادرًا على تحفيز الخلايا لإنتاج البروتينات المولِّدة للمناعة لفيروس آخر. فهذه الطريقة تُعرِّض الجهاز المناعي لدى المُضيف لبروتيناتٍ معينة من فيروس مُستَهدَف وليس الفيروس نفسه، مما يجعل المُضيف قادرًا على اكتساب المناعة بأمان. وفي ما يتعلق بلقاح AZD1222، هذا البروتين هو البروتين الشوكي لفيروس "سارس-كوف-2" الذي يُسبِّب مرض "كوفيد-19".
في عام 2012، ابتكر باحثون في جامعة أكسفورد لقاح ChAdOx1، وهو لقاح ناقل فيروسي يعتمد على فيروس غُدِّي قِرَدي مُعدَّل. اختار الباحثون هذا الفيروس الغُدِّي القِرَدي تحديدًا لأنه "إذا استخدمت فيروساتٍ غُدِّية بشرية لتحصين البشر، فستواجه مشكلة المناعة القائمة مسبقًا"، بحسب ما أفادت به سارة جيلبرت، أستاذة علم اللقاحات بجامعة أكسفورد والمؤسس المشارك للشركة المُنبثقة "فاكسيتيك" Vaccitech، التي حصلت على براءة اختراع التقنية الخاصة بلقاح ChAdOx1. وبعد مبادرات التعاون الناجحة مع مؤسسات أخرى تستخدم فيروسات غُدِّية قِرَدية أخرى، تقول جيلبرت: "أردنا ابتكار لقاح يحمل بصمتنا. وقد استطعنا الحصول على فيروس يصيب الشمبانزي ورد ذكره في الأبحاث العلمية السابقة، ومن ثمَّ، تمكَّن طالبٌ من تحويله في المختبر إلى ناقلٍ يمكن استخدامه في صُنع لقاحٍ"، وبهذه الطريقة خرج إلى النور لقاح ChAdOx1.
من أجل تصميم هذه التقنية، أدخل فريق جيلبرت تعديلاتٍ على الجينوم الفيروسي لتعطيل قدرته على التكاثر ورفع كفاءة تصنيعه، أمكنهم إدخال الجين الذي يشفِّر البروتين الفيروسي المطلوب. وكانت النتيجة النهائية محلولًا قابلًا للحَقْن يُصيب الخلايا الموجودة حول موضع الحَقْن ويُحدِث زيادةً كبيرةً جدًا في معدل التعبير عن البروتين المُستهدَف. وفي ما يخص لقاح AZD1222، تقول جيلبرت: "يُمثِّل البروتين الشوكي نحو 80% من البروتين المُعبَّر عنه من الفيروس الغُدِّي".
ويكتسب الجهاز المناعي لدى المُضيف قدرة التَّعَرُّف على البروتين المُعبَّر عنه والاستجابة له، ولكن نظرًا إلى أن الفيروس لا يستطيع إنتاج نسخٍ جديدة من نفسه، فإن العدوى قصيرة الأجل لا تنتشر في أنحاء الجسم، ومن ثمَّ لا يمرض المُضيف. تقول جيلبرت إن هذا يجعل هذه التقنية آمنةً تمامًا للاستخدام، حتى بالنسبة للأشخاص الذين يُعانون ضعفًا في أجهزتهم المناعية. وتضيف: "يبدو الأمر كما لو أنك مُصابٌ بعدوى فيروس كورونا في ذراعك، ولكن هذا الفيروس ليس فيروس كورونا، وإنما هو الفيروس الغُدِّي الذي لا يقوى على استنساخ نفسه".
لقاح ChAdOx1 كتقنيةٍ وليس كمنتجٍ
تصف جيلبرت الفيروس الغُدِّي القِرَدي المُعَدَّل بأنه يُمثِّل "تقنيةً أساسية حقيقية" يُمكِن تعديلها على نحوٍ يستحث التعبيرَ عن بروتيناتٍ فيروسية مختلفة دون أي تغييراتٍ في التَّصنيع أو مستويات الأمان. ويستعين باحثو أكسفورد بتقنيتهم هذه في استكشاف لقاحاتٍ لعديد من الأمراض، مثل السُّل، وداء الكلب، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS)، وحُمَّى الضَّنْك، والمرض الناجم عن الإصابة بفيروس زيكا.
ومن جانبه، يضيف أحمد سلمان، أحد كبار اختصاصيي اللقاحات والمناعة بجامعة أكسفورد، أن اللقاحات المعتمدة على تقنية ChAdOx1 سهلة الإنتاج وتمتاز بالاستقرار بمجرد صنعها، مشيرًا إلى أنه يُمكِن إنتاج كمياتٍ كبيرة "بتكلفةٍ منخفضة حقًا في فترة زمنية قصيرة". كما أن هذه التقنية فعَّالة جدًّا في استثارة استجابة قوية لدى كلٍّ من الخلايا البائية والخلايا التائية، في حين ينجم عن التقنيات المُنافسة خللٌ في الاستجابة في كثير من الأحيان.
وفي المؤتمر الافتراضي الذي عقده مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية )كيمارك) تحت عنوان "لقاحات كوفيد-19: منتدى التحديات العالمية والآفاق المستقبلية"، شرحت جيلبرت كيف نجح فريقها في الوصول إلى تجاربه الأولى على البشر بعد 103 أيام فقط من حصوله على التَّسلسل الجيني للبروتين الشوكي.
يرى المتشكِّكون في اللقاحات أن السرعة التي طُوِّرت بها هذه العلاجات دليلٌ على قصورٍ في فهمها أو اختبارها. لكن سلمان يوضِّح أن أبحاث اللقاحات عادةً ما تعترضها عوائق تتمثل في بطء العمليات البيروقراطية وإهدار الوقت في انتظار المنح والموافقات والنشر، وكل هذا يحدث في الوقت ذاته الذي يعاني فيه الناس من المرض. ويشير سلمان إلى أن مرض "كوفيد-19" يُعد، من وجهة نظره، "مثالًا ممتازًا" على أن الأمور يُمكِن أن تكون أبسط بكثير، إذ يقول: "ينصبُّ عملي على مرض الملاريا الذي لا يحظى [بالقدر نفسه من الاهتمام الذي يحظى به مرض "كوفيد-19"]. نحن بصدد إجراء تجارب سريرية في غضون أسابيع قليلة، لكننا بدأنا الأبحاث منذ أكثر من سبع سنوات".
وإضافة إلى ذلك نقول إن لقاحاتٍ مثل لقاح "AZD1222" لم تُستَحدَث من الصفر لمرض "كوفيد-19"؛ وإنما اتخذت الأسباب التي استمرت لعقودٍ أساسًا لها. كما لم يجد العلماء أنفسهم في مواجهة الجائحة بغير هدى، فقد كانت متوقعة. وعن هذا يقول سلمان إن جامعة أكسفورد قد بدأت عام 2016 مشروع "الجائحة إكس" (Pandemic X)، فقد أعدَّ العلماء خططًا مستندين إلى توَقُّعات بماهية الأمراض التي قد تُسبِّب جائحة عالمية، ونوعية العلاجات التي قد تساعد على مواجهتها، وطبيعة البنية التحتية التي يجب تنفيذها للتَّخفيف من وطأة الكارثة. ويضيف سلمان قائلًا إن هناك عديدًا من الأوبئة الإقليمية التي تفشَّت منذ عام 2000، مثل إنفلونزا الخنازير، وإنفلونزا الطيور، والمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة "SARS"، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، والمرض الذي يُسبِّبه فيروس زيكا، والمرض الناجم عن الإصابة بفيروس الإيبولا، وهذه الأوبئة قدَّمت دروسًا في سُبُل التأهُّب والجاهزية. في هذا السياق، من الواضح أن المجتمع البحثي العالمي يحتاج إلى الاستمرار في الاستعداد لما قد يحدث مستقبلًا.
العمل من أجل المستقبل
لم يتوقف عمل جيلبرت وسلمان بطرح لقاح "أكسفورد-أسترازينيكا". تقول جيلبرت: "نحن مشغولون حقًا"، مضيفةً أن التجارب لا تزال تجري على قدمٍ وساق. سيتابع الباحثون حالة المشاركين في التجارب بعد مرور ستة أشهر وعامٍ كامل على تلقيهم جرعتهم الثانية بهدف جمع عينات الدَّم وإعداد بيانات طويلة الأمد. وقد وَسَّعت جيلبرت وفريقها من نطاق دراساتهم لتشمل مجموعةً مُصابة بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (HIV) في المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا. غير أنَّه قد تقرَّر وقف عديد من هذه التجارب بسبب المخاوف من احتمالية تَسَبُّب اللقاح في حدوث جلطات دموية خطيرة في حالات نادرة.
ظهرت هذه المخاوف بعد طرح اللقاح، عندما صرَّحت بلدانٌ عدة أن ثمة ارتباطًا في ما يبدو بين تلقي اللقاح وحدوث جلطات دموية خطيرة لدى حالات نادرة جدًّا. ورغم ندرة هذا، قرَّر بعض الجهات الرقابية تعليق استخدام اللقاح مؤقتًا ثم صُرِّح باستخدامه لاحقًا لبعض الفئات مثل كبار السن. وبوجه عام، ثمة إجماعٌ بين مسؤولي الصحة على أن فوائد اللقاح لا تزال تفوق مخاطره، ولكن الأبحاث تُجرى حاليًا بشأن الآلية التي تقف وراء حدوث التَّجلُّط على أمل التمكُّن من تقليل المخاطر أكثر وأكثر، فضلًا عن الإسهام في توجيه عملية تقييم اللقاحات الأخرى.
تختتم جيلبرت قائلةً: "لقد حصلنا إلى الآن على التصريح باستخدام لقاحنا في 15 بلدًا، ولكن هناك جهات رقابية أخرى لا تزال تُجري تقييماتها وتُرسل أسئلتها التي يتعين علينا الإجابة عنها بسرعة. وبمجرد أن يُتاح لديّ الوقت اللازم لإنجاز أي شيء آخر، فإن أمامي جميع مشروعات اللقاحات الأخرى التي كان يجب أن أعكف على العمل فيها العام الماضي".
References
- | article