ضريبة الصراعات على الصحة النفسيّة والعقليّة

كشفت تقديرات مُحَدَّثة صادرة عن منظمة الصحة العالميّة أن الأمراض النفسيّة والعقليّة في مناطق الصراعات أكثر انتشارًا من غيرها من المناطق بثلاثة أضعاف. 

PhotoTalk/ E+/ Getty Images

كشفت دراسة جديدة أعدّتها منظمة الصحة العالميّة (WHO) عن أن القاطنين في مناطق الصراعات معرَّضون أكثر من غيرهم بثلاثة أضعاف للإصابة بالاكتئاب أو اضطراب القلق أو اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة أو الاضطراب ثنائي القطب أو الفصام.

قام الباحثون بتحديث تقديرات منظمة الصحة العالمية لنِسب انتشار الاضطرابات النفسيّة والعقليّة في المناطق المتأثرة بالصراعات، إذ كانت تلك التقديرات تعود إلى عشر سنوات مضت، وذلك باستخدام أدوات أحدث للتحليل الإحصائي، وبمراجعة مجموعة أوسع من الدراسات السابقة. جُمِعَت الإحصاءات من خلال البحث والمراجعة الدقيقة لمختلِف دراسات الصحة النفسيّة والعقليّة التي أُجْرِيَت في مناطق الصراعات، بما يشمل 45 دراسةً جديدة نُشِرَت على مدار أربع سنوات.

أشارت نتائج المراجعة إلى أن شخصًا واحدًا تقريبًا من كل خمسة أشخاص يعيشون في مناطق خارجة من صراعات قد شُخِّص بأحد هذه الاضطرابات، مقابل المتوسط العالمي البالغ شخصًا واحدًا من كل 14 شخصًا.

وقد اكتشف الباحثون ارتفاع نسبة انتشار الاضطرابات النفسيّة والعقليّة الشديدة فوق ما كان مُقَدَّرًا في السابق، إذ يبلغ التقدير الحالي 5.1%، مقارنةً بنسبة 3-4% المُقدَّرة سابقًا. كذلك، اكتشف الباحثون ارتفاع نسبة انتشار الاضطرابات النفسيّة والعقليّة البسيطة إلى المتوسطة. وقد كانت التقديرات لعدد سنوات عبء المرض (YLD) لكل ألف مصاب بالاكتئاب واضطراب إجهاد ما بعد الصدمة أعلى بخمسة أضعاف من التقدير العالمي لعِبء المرض.

وتعليقًا على هذا تقول سماح جبر، الطبيبة النفسيّة، ومديرة وحدة الصحة النفسيّة بوزارة الصحة الفلسطينيّة: إن هذه النتائج لا غنى عنها في وضع خطط العمل، ولإلقاء نظرة عن كثب على مناطق الصراعات، مضيفةً: "يمكن أن تساعدنا النتائج على فهم العبء المتزايد على الصحة النفسيّة والعقليّة وعلاقته بالحروب والعنف".

وضع تعريف مُوحّد للصراع

تؤثر كلٌّ من الوصمة، وثقافة الصحة النفسيّة والعقليّة، وطبيعة الصراعات على تشخيص الاضطرابات والإبلاغ عن بياناتها في سياقات الطوارئ.

فعلى سبيل المثال، تشرح سماح جبر أن تعريف الطب النفسيّ للصدمة لا يستوعب السياقات السياسيّة؛ إذ يواجه الأفراد في حياتهم اليومية الإذلال ومعاملتهم كسلعة والتعجيز القهريّ والتعرُّض اليومي للضغوط النفسيّة الضارّة. ومن الضروري مراجعة الأنماط الثقافيّة المتنوّعة، ليس فقط على حسب السياقات، بل وكذلك من وجهة نظر الطب السريريّ.

تقول فيونا تشارلسون، المؤلفة الرئيسية للدراسة والباحثة بمركز كوينزلاند لأبحاث الصحة العقليّة بأستراليا: "حاولنا مراعاة الاختلافات السياقيّة كلما أمكن، عن طريق اختبار مجموعة من المتغيِّرات مثل شدّة تعرُّض الفرد للصدمة، والوقت المنقضي منذ اندلاع الصراع، والتقدير على مقياس الإرهاب السياسيّ، والموقع الجغرافيّ للصراع،  هذا، وقد أضفنا إلى نماذجنا المتغيِّرات وثيقة الصلة"، إلا أن سياقات الصراعات تتباين بشدة. إن تفسير الأنماط الثقافية والسياقية المتنوّعة تفسيرًا كاملًا هو أمر فائق الصعوبة، وكان من مُحَدِّدات دراستنا".

كان من الضروري تعريف ما يمكن اعتباره صراعًا لأغراض البحث. وفي هذه المراجعة، عرّف الباحثون الصراع بأنه "وجود قُوَى متعارضة، مع اشتراط تحديد عتبة للعنف تُوصف بعدد الوفيات [و]مستوى إرهاب الدولة وفقًا لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها". لم تشمل الدراسة الكوارثَ الطبيعية وتفشِّي الأوبئة مثل الإيبولا.

استخدم الباحثون معايير الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات العقليّة (DSM) والتصنيف الإحصائي الدوليّ للأمراض (ICD)، وكذلك المتغيّرات المعروف ارتباطها بنسبة الانتشار (مثل التعرُّض للصدمة) كمرجعٍ للاضطرابات وصفاتها التشخيصيّة من أجل قياس معدلات الانتشار.

راجعت الدراسة معايير مثل العمر، والأمراض المصاحبة، وعدد سنوات عبء المرض، وشدة الاضطراب. وجرى تحديث الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات العقليّة والتصنيف الإحصائي الدوليّ للأمراض خلال وقت الدراسة، بين عامي 2000 و2017. وبسبب الأنماط الثقافيّة المتنوّعة والتغيّرات في المعايير التشخيصيّة، توصي الدراسة بإجراء مراجعة لمعدلات انتشار اضطراب القلق واضطراب إجهاد ما بعد الصدمة.

ماذا نفعل بالأرقام؟

في مايو عام 2012، اعتمدت جمعية الصحة العالمية قرارًا بتنفيذ خطة عملٍ عالميّة معنيّة بالصحة النفسيّة والعقليّة. ومن الضروري التوصّل إلى معدلات انتشار الاضطرابات النفسيّة والعقليّة في إطار الأهداف المزمَع أن تحققها خطة العمل. ووفقًا لوثيقة صادرة عن منظمة الصحة العالميّة، فالخطة "عالميّة النطاق، ومُصمّمة لتكون دليلًا لوضع خطط العمل الوطنيّة. وفي جميع سياقات الموارد، تناقش الخطة استجابة القطاعات المجتمعيّة والقطاعات المعنيّة الأخرى، وإستراتيجيّات التعزيز والوقاية".

تسلّط النتائج الضوء على العبء المتزايد للصحة النفسيّة والعقليّة، وعلاقته بالحروب وسياقات العنف، وفق سماح جبر. فهما يشكّلان حُجّةً مقنعةً للمجتمعات الإنسانيّة والتنمويّة والصحيّة ودوائر الصحة النفسيّة والعقليّة حول العالم لتجعل من أولوياتها توفير خدمات الصحة النفسيّة والعقليّة في المناطق التي تشهد صراعات والمناطق الخارجة من صراعات.

تقول جبر إنه في حالة فلسطين على سبيل المثال، "تحفزنا الدراسة أكثر على دمج خدمات الصحة النفسيّة والعقليّة في المدارس التي يرتادها ثلث الشعب الفلسطينيّ، وفي مواقع الرعاية الصحيّة الأساسيّة التي يقصدها أغلب الشعب". وتضيف جبر أن الدراسة تدق جرس إنذار بشأن حقوق الإنسان والقمع السياسيّ، وهو سبب جذريّ لزيادة حالات الإصابة بالاضطرابات النفسيّة والعقليّة.

ومن المهم الاعتراف بأن الدراسة –رغم أهميّتها– مقيّدة باعتمادها على أبحاث منشورة غير متاحة بسهولة في العديد من الدول، ولا سيّما الدول التي تمرّ بصراعات. وتقول جبر إن ثمّة نقصًا في أبحاث الصحة النفسيّة والعقليّة الشاملة في فلسطين، مثلًا. وتستطرد: "بالتالي، لا يزال أمامنا طريقٌ طويلٌ قبل أن نخرج باستنتاجات موثوقة بشأن الصحة النفسيّة والعقليّة في مجتمعنا. وحتى ذلك الحين، ينبغي لنا أن ندرس بعين ناقدة نتائج المسوح الوبائيّة التي تُجرى في الظروف الطارئة".

References

  1. Charlson, F. et al. New WHO prevalence estimates of mental disorders in conflict settings: a systematic review and meta-analysis. The Lancet, 294 (2019).  | article

أقرأ أيضا

السعوديون أوفر حظًّا في عمليات نقل الدم

فرص نجاح عمليات نقل الدم أكبر لدى مرضى سرطان الدم السعوديين، ربما بفضل افتقارهم إلى التنوع الوراثي

أمراض القلب وارتباطها بارتفاع معدلات تلوث الهواء في الصين

تربط دراسة شملت 26 مدينة كبيرة في الصين بين التعرض قصير الأجل لتلوث الهواء وزيادة معدلات التنويم بالمستشفيات نتيجةً لفشل القلب.

التحديات النفسية لمرضى الصرع

يتعرض الأطفال المصابون بالصرع المعمم مجهول السبب في المملكة العربية السعودية لاضطرابات وجدانية وسلوكية في أغلب الأحيان بدرجة تزيد كثيرًا عن أقرانهم الأصحاء.