4 فبراير 2020
من أصعب الأمور التي يواجهها جوبينج فينج في عمله الاستماع لمعاناة أهالي الأطفال المصابين بالتوحُّد. فخلال عمله أستاذًا لعلم الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وباحثًا بارزًا في اضطرابات النمو العصبي، مثل اضطراب الطيف التوحُّدي (ASD)، يجد فينج نفسه وجهًا إلى وجهٍ مع معاناة هؤلاء الأهالي عبر الرسائل الإلكترونية، والمكالمات الهاتفية، والزيارات في مكتبه. يقول فينج: «يسألونني: ماذا نفعل؟ ولكني لا أملك مساعدتهم في الوقت الحالي».
يعكس ردُّ فينج طبيعة الوضع الراهن للأبحاث المعنيَّة باضطراب الطيف التوحُّدي، الذي لا يزال أمامه طريقٌ طويلٌ من العمل والبحث. "لا يمكنك أن تمنحهم أملًا زائفًا، ولكنك تودُّ لو تمنحهم بعض الأمل... كيف أخبرهم بذلك؟".
رغم تلك الصراعات النفسية، فإن طلبات المساعدة التي يتلقاها فينج من الآباء هي ما يحفِّزه على العمل. "هذا الأمر يحفِّزني أنا وفريق عملي على العمل والتحرُّك بأسرع ما يمكننا، حتى نمُدَّ لهم يد العون".
بالتعاون مع فريقٍ دولي يضمُّ علماء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وباحثين من الصين، أحرز فينج تقدمًا كبيرًا، من شأنه أن يفتح بابًا واسعًا أمام مزيدٍ من الفهم لاضطراب الطيف التوحُّدي، وذلك عن طريق استنساخ قرود ماكاك معدَّلة وراثيًّا بالطفرة الجينية نفسها الشائعة لدى المصابين بالتوحُّد. يُتيحُ هذا النموذج الجديد مزيدًا من الفرص أمام العلماء لدراسة اضطراب التوحُّد، وسدِّ فجوة الفهم الحالية بين الأساس الجيني للمرض وأعراضه المنهكة. ومن المأمول أن تمكِّن تلك المعرفة الباحثين من ابتكار علاجات جديدة لاضطراب الطيف التوحُّدي.
دراسة اضطراب الطيف التوحُّدي
اضطراب الطيف التوحّدي هو اضطراب نمو عصبي يظهر في عدة أشكال. غالبًا ما تظهر الإصابة في سن مبكِّرة، ولكن هناك بعض الحالات التي لا تظهر فيها الأعراض إلا في بدايات مرحلة البلوغ. وقد يؤثِّر التوحُّد في قدرة الشخص على التواصل، أو غيره من صور النشاط الاجتماعي. ويمكن أن تظهر الأعراض الأخرى في صورة سلوكيات ثابتة ومتكررة، منها ما قد يصل إلى إيذاء النفس.
يقول يانج زو، الباحث السابق في مختبر فينج، بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمؤلِّف الرئيسي لدراستهما التي نشرتها دورية Nature مؤخرًا: إن مجتمع البحث الدولي اكتشف قائمةً تضم نحو 1000 جينٍ يُشتبه في اتصالها باضطراب الطيف التوحُّدي. أجرى زو دراساتٍ مكثفةً على اضطراب التوحُّد في نماذج الحيوانات على مدار عشر سنوات، وهو الآن يواصل أبحاثه في جامعة مكغيل في مونتريال، كندا.
قد تحدث الإصابة بالتوحُّد نتيجة عدة عوامل جينية، أو عامل جيني أحادي في بعض الحالات. وركَّزت الدراسة التي أجراها زو وفينج على طفرة تحدث في جين SHANK3 تظهر لدى نحو 1.5% من جميع حالات التوحُّد أحادية الجين. ورغم أن نسبة تلك الطفرة ضئيلة، فإنها تُمثِّل أحد أكبر الأسباب أحادية الجين للإصابة باضطراب الطيف التوحُّدي.
يقول زو: "إنSHANK3 هو الجين المسؤول عن تشفير البروتين البنيوي الرئيسي الذي يكوِّن المشابك العصبية في الدماغ. والمشبك العصبي هو وحدة البناء الأساسية المسؤولة عن التواصل بين الخلايا العصبية في الدماغ". عند حدوث اضطراب في جين SHANK3 ، يحدثُ خلل في عملية الاتصال العصبي، يليها تغيير في الدوائر العصبية الدماغية، وظهور مجموعة الأعراض المرتبطة بالتوحُّد.
درس زو وفينج وفريق عملهما سابقًا اضطراب التوحُّد في نماذج الفئران؛ إذ تمكَّن الباحثون منذ وقت طويل من استحثاث المرض في الفئران باستخدام أدوات التحرير الجيني. إلا أن نماذج الفئران لا تكشف الكثير عن طبيعة هذا الاضطراب. فكما يوضح فينج، فإن دماغ كل حيوان، ومشاعره، وسلوكياته تتطور عبر مراحل تطوُّره بما يتناسب مع احتياجاته. ونتيجةً لذلك، تختلف أدمغة الفئران تمام الاختلاف عن الدماغ البشري، غير أن أدمغة القردة هي الأقرب إلى أدمغة البشر. ولكن العلماء لم يتوصلوا إلى آلية موثوقة لتعديل جينات القرود إلا قبل سنوات قليلة فقط.
تقنية كريسبر
حقَّق فريق الباحثين نقلةً نوعيةً في عملهم مع اكتشاف تقنية «كريسبر-كاس9»، وهي أداة تحرير جيني اكتُشفت وتطورت على مدار السنوات العشر الماضية.
يحدث التحرير الجيني باستخدام أداة كريسبر عن طريق بروتين كاس9، الذي يقصُّ الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA)، والمرتبط بالحمض النووي الريبوزي الدالّ (guide RNA)، وهي سلسلة قصيرة من المادة الوراثية، تتحد مع الجزء المكمِّل من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين، ويقوم بروتين كاس9 بقصِّها. ومن خلال اختيار أحماض نووية ريبوزية دالّة بعينها وتغيير تركيبة كاس9، يستطيع العلماء الآن تعطيل جينات معينة، أو زيادة التعبير الجيني، أو إدخال جينات جديدة كلِّيًّا.
يوضح زو أن استنساخ جنين معدَّل وراثيًّا كان يتطلب في السابق استخدام آلاف الأجنَّة. ولكن، مع تقنية كريسبر، يمكن للعلماء الآن الحصول على خمسة أجنَّة معدّلة وراثيًّا من إجمالي عشرة أجنَّة فقط. كما أشار بعض الباحثين أيضًا إلى أن نسبة الكفاءة في هذه العملية بلغت 90%.
استنسخ الفريق خمسة قرود ماكاك لديها خلل في جيناتSHANK3 ، وهو ما يتسبب في إفراز كميات أقل من بروتين SHANK3 الوظيفي، ومن ثمَّ يحفِّز ظهور أعراض شبيهة بأعراض التوحد. أظهرت قرود الماكاك سلوكًا متكررًا، ومشكلات في التفاعل والحركة، وعدم القدرة على النوم العميق، وجميعها من أعراض التوحُّد في البشر.
ولكن الاكتشاف الأهم في تجارب الفريق هو أن تلك الطفرات المستحثة في القرود قد انتقلت عبر الخط النسيلي، ما يعني أنها طفرات وراثية، ويُمكن أن تنتقل عن طريق التكاثر إلى الجيل التالي من القرود.
تمكين علوم المستقبل
يمكن الاستفادة من النموذج الذي ابتكره زو وفينج وفريق عملهما للحصول على فهم أوضح لأسباب اضطراب الطيف التوحُّدي وتأثيراته. فيقول زو إن العلماء -على سبيل المثال- يعكفون في الوقت الحالي على تطوير نُظمٍ تعمل بالذكاء الاصطناعي؛ لمراقبة نماذج القرود التي ظهرت عليها أعراض اضطراب الطيف التوحُّدي، (وفهم المزيد عن تأثيرات هذا الاضطراب). وقد تستعين الدراسات المستقبلية بهذا النموذج لدراسة آثار العلاجات الجينية التي يمكن أن تُحدث ثورةً في علاج التوحُّد. وباستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، والتخطيط الكهربائي للدماغ (EEG)، قد يتمكن الباحثون من تحديد أنماط التعبير الجيني للمرض في نشاط الدماغ، وتزويد الأطباء السريريين بمجموعة موثوقة من المؤشرات الحيوية لتشخيص اضطراب الطيف التوحُّدي لدى الأطفال بصورة أسهل وأكثر موضوعية.
بالنظر إلى هذه الاكتشافات المستقبلية المحتملة، يجدُ الآباء الذين يتواصلون مع فينج أملًا في أن يستفيد أبناؤهم من هذه العلاجات. وإلى أن يحدث ذلك، يحرصون على تقديم كلِّ الدعم لفينج وفريقه. ويقول فينج: "هؤلاء الآباء يجمعون التبرعات لأنهم يدركون أن العلم هو مصدر الأمل لأبنائهم. نحن ممتنُّون كثيرًا لهم، ولدينا حافزٌ شديد لمواصلة العمل".
References
Zhou, Y., et al. Atypical behaviour and connectivity in SHANK3-mutant macaques. Nature 570 326–331 (2019) | article