23 ديسمبر 2021
تفرض الإصابة بالسكّري على المريض تناولَ الأدوية طوال عمره، وإدخال تغييرات جذرية على نمط الحياة، والتحكّم الواعي في مستوى السكّر بالدم، والتعامل مع خطر طويل الأمد بحدوث مضاعفات تُهدِّد حياته. على أنه يمكن لكثيرين الوقاية من هذا المرض، والأهم أنه يمكن التنبؤ به. فالمصابون بمقدّمات السكّري يمكن أن يُدخلوا بعض التعديلات على أسلوب حياتهم لتحويل مسار تطور المرض وتفادي الإصابة به. ومن خلال تحسين قدرات التنبؤ بالأشخاص المعرضين للإصابة، يمكن للسلطات الصحيّة والأطباء السريريين توجيه مواردهم المحدودة لمن هم في أمسِّ الحاجة إليها.
اضطراب مدى الحياة
السكّري مرض معقَّد يلازم المصاب مدى الحياة، ويتسبب في عدم القدرة على الحفاظ على المستوى الطبيعي للسكّر في الدم، فيكون الجسم معرَّضًا إما لارتفاعه وإما لانخفاضه. وينقسم السكّري إلى نوعين رئيسيين: السكريّ من النوع الأول الذي تُسبّبه المناعة الذاتية بمهاجمتها خلايا بيتا التي تفرز الإنسولين ويُصاب به المريض عادةً في مرحلة الطفولة، والسكّري من النوع الثاني الذي يحدث في مرحلة البلوغ.
إن السكّري من النوع الثاني أكثر شيوعًا بكثير، إذ يُشكِّل 90% من حالات السكّري على مستوى العالم. ورغم وجود كثير من عوامل الخطورة المرتبطة بالسكّري من النوع الثاني، ومنها العوامل الوراثية، يرتبط المرض ارتباطًا وثيقًا بالسِّمنة والخمول البدني. وبالحفاظ على وزنٍ صحيّ والمواظبة على ممارسة الرياضة والتغذية السليمة يمكن منع أو تأخير الإصابة به. ويعدّ السكريّ من النوع الثاني إحدى المشكلات الكبرى في مجال الصحة العامة، إذ بلغ عدد المصابين به 422 مليون شخص في عام 2014.
ويدرس الباحثون حاليًا سُبل تصنيف والتنبؤ بمجموعات الأشخاص الذين هم في طريقهم للإصابة بالسكّري، مستعينين في ذلك بمجموعة هائلة من التطوّرات التقنيّة، مثل تعلُّم الآلة، لإجراء فحوصات تكشف عن بوادر المرض.
إنجازٌ أكبر بموارد أقلّ
يهدف أحد المشروعات البحثية، المنشور في دورية "ساينتفيك ريبورتس" 1Scientific Reports، إلى تصميم أداة للصحة العامة تقيس خطر الإصابة بالسكّري بين المواطنين القطريين. ويقود ليث أبو ردّاد، الباحث بكلية وايل كورنيل للطب في قَطَر، فريقًا بحثيًا دوليًا يستخدم النمذجة الرياضية لمحاكاة نمط حياة مجموعة من القطريين، ويعتمد على البيانات الناتجة لتطوير أداة تقيس نسبة الخطورة وتتنبأ باحتمالات إصابة الأفراد بالسكّري.
ويقول أبو ردّاد إن زيادة القدرات الحاسوبية بفضل التطوّرات التقنيّة تتيح لمزيد من الدول الاستفادة من البيانات، مضيفًا أنه في الدول الغنية تزداد سهولة الوصول إلى البيانات الأساسية، ففي الولايات المتحدة مثلًا، تُجرَى المسوحات الوبائية عن السكّري مرة كل عامين، وهو ما يوفّر كمًّا هائلًا من البيانات التي تُستخدم في تطوير أداة لحساب معدّل خطورة الإصابة بالسكريّ على مستوى الدولة، مع الأخذ في الاعتبار كيفية تغيّر المتغيرات التنبؤية بمرور الوقت.
لكن هذا الخيار ليس متاحًا لعديد من الدول. فالدول الأقل ثراءً تُجري مسوحات أقل بكثير أو تتبع منهجيات مختلفة تُصعِّب من عملية جمع البيانات التجريبية. وفي هذا السياق، ساعد ظهور النمذجة الرياضية على تسهيل الوصول إلى البحوث العلمية الجيّدة. يقول أبو ردّاد: "تُقدّم لنا التقنية أداةً زهيدة التكلفة تجعلنا في غنى عن إجراء المسوحات".
والواقع أن التقنية ناجعة. فعندما قارَن فريق أبو ردّاد معدلات بياناتهم الناتجة عن المحاكاة مع البيانات الأوليّة المأخوذة من المشاركين القطريين في الدراسة، كانت النتائج متوافقة "بدرجة جيدة جدًا"، على حد قول أبو ردّاد.
ويستطرد أبو ردّاد قائلًا إن الهدف الأساسيّ للتنبؤ بخطر الإصابة بالسكّري هو تشكيل الوعي العام بشأن الأمور التي يمكن أن يفعلها الأفراد لتقليل احتمالات إصابتهم. ويضيف: "الهدف تحقيق الوعي الذاتي والانتباه إلى أهمية تغيير السلوك". ففي دولٍ مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تتوافر على الإنترنت أدواتٌ يمكن لأي شخص استخدامها وإدخال بعض المقاييس البسيطة جدًا ليحصل فورًا على معدل لخطورة إصابته بالسكّري. ويقول أبو ردّاد: "هذا هو ما نخطط لفعله في قطر، لأن ذلك من شأنه تمكين الأفراد من معرفة احتمالات إصابتهم، وهو ما نأمل في أن يؤدي إلى إحداث تغيير في السلوك ونشر مزيد من التوعية بخصوص السكّري".
سكّر الدم ليس المقياس الوحيد
يشير فريق بحثي دوليّ آخر، بقيادة روبرت فاجنر، الباحث بجامعة توبينجن بألمانيا، إلى ضرورة تغيير تعريف ما نصنّفه على أنه مقدّمات السكّري تغييرًا جذريًّا، وذلك بهدف تحسين التنبؤ باحتمالات الإصابة. ويوضِّح فاجنر ذلك قائلًا: "يرتبط التعريف الحاليّ لمقدّمات السكّري بمستوى السكر في الدم فحسب". وفي بحث نُشر في دورية "نيتشر ميديسن" Nature Medicine، يوضِّح فريق فاجنر أن ذلك لا يعكس المسارات الأيضية المستقبلية، أو عديدًا من المتغيرات التي تتنبأ فعلًا بكيفية تطوّر الحالة الصحية للفرد من شخص معافَى صحيًّا إلى مريضٍ بالسكّري2.
ويشير فاجنر إلى أن فهم الفسيولوجيا المرضية للسكّري يستلزم إجراء الفحوصات قبل أن يستفحل المرض، فيقول: "عندما تظهر أعراض السكّري، يكون هناك كثير من الاختلالات الأيضية التي تجعل تحليل الوضع منحازًا". ويضيف أن تطوُّر السكّري يستغرق وقتًا طويلًا، ودون دراسة مرحلة مقدمات السكّري تصعُب معرفة ما إذا كان ارتفاع سكر الدم سببًا أم نتيجة لبعض الاختلالات الأيضيّة المرتبطة بالسكّري.
صنَّف فاجنر وفريقه مجموعة أشخاص تتزايد لديهم خطورة الإصابة بالسكّري إلى مجموعات، بناءً على عدد من المقاييس الصحية المرتبطة بالمرض. ومن بين ست مجموعات، وجد الباحثون أن ثلاث مجموعات فقط هي التي تعاني من ارتفاع سكر الدم، وأن مجموعتين فقط معرَّضتان لخطرٍ وشيك هو الإصابة بالسكّري، في حين تعاني مجموعة واحدة من درجة خطورة متوسطة للإصابة بالسكّري، لكنها تواجه خطرًا كبيرًا للإصابة بأمراض الكلى والوفاة بجميع أسبابها. يقول فاجنر: "نعلم أن الأمر لا يقتصر على نسبة السكر في الدم".
تتيح التقنيات الحديثة -مثل تعلُّم الآلة والنمذجة المتقدمة- للباحثين فهم المجموعات الهائلة من البيانات المتاحة لديهم، بحسب قول فاجنر. وباستخدام تقنيات مثل أجهزة قياس السكّر المستمر، التي توضع تحت الجلد وتقيس باستمرار مستويات السكّر في السائل الخلالي كبديلٍ عن قياس سكّر الدم، يمكن توفير قدر هائل من البيانات حتى أن استخلاص النتائج المهمة من تلك البيانات لن يكون ممكنًا دون الاستعانة بأحدث التقنيات التحليلية.
وفي ظلّ إصابة كثيرين بالسكّري على مستوى العالم والعبء الكبير الذي يضعه هذا المرض على كاهل الأفراد والسلطات الصحية، يُجرَى كثير من الأبحاث للتعرف على العلامات التحذيرية في وقتٍ مبكر قدر المستطاع. وباستخدام أحدث التقنيات، يمكن للعلماء فهم البيانات المتاحة وتطوير أنظمة لتصنيف الأفراد الأكثر عرضة للخطر. وإضافةً إلى تحديد الوقت المناسب لإجراء اختبارات السكري على الأفراد، سيتيح ذلك للسلطات الصحية والأطباء السريريين توجيه التدخلات المكلّفة التي تتطلب موارد ضخمة لمن هم في أشدّ الحاجة إليها.
References
- Awad, S. F., et al. A diabetes risk score for Qatar utilizing a novel mathematical modeling approach to identify individuals at high risk for diabetes. Scientific Reports 11, 1811 (2021). | article
Wagner, R. et al. Pathophysiology-based subphenotyping of individuals at elevated risk for type 2 diabetes. Nature Medicine 27, 49-57 (2021). | article