الوضع العام للصحة النفسية في المملكة العربية السعودية

تعزيز الرفاه وتحسينه في أثناء جائحة «كوفيد-19»، مع الحدِّ من الوصم المرتبط بالمرض النفسي.

N/A

شكَّلت جائحة «كوفيد-19» أزمة عالمية غير مسبوقة، فالغموض، وفقد الأحبة، والتباعد الاجتماعي، وغياب الأمان الاقتصادي، كل ذلك ترك أثرًا ملحوظًا في الصحة النفسية وتسبب في تفاقم مشكلات من يعانون بالفعل من اضطرابات نفسية. فكيف يتعامل المواطنون السعوديون مع المعاناة النفسية؟ وكيف تتعامل الدولة مع هذا الوضع الصعب؟ اسْتَعْرض بضع دراسات ومسوحات استقصائية أُجريت مؤخرًا الخدمات والتوجهات والتحديات المرتبطة بالرعاية الصحية النفسية والرفاه في المملكة.

الرعاية الصحية النفسية بالأرقام

في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، كان هناك مستشفيان فقط للأمراض النفسية في المملكة العربية السعودية، لكنّ أبحاث الصحة النفسية وعلاجاتها نالت أولوية أكبر وأصبحت محل اهتمام عاجل في العقود الماضية، فقد ركّزت «الإدارة العامة للصحة النفسية والاجتماعية» في المملكة -والتي أُنشئت عام 1983- على تخصيص الموارد المالية اللازمة للرعاية الصحية النفسية، وتطوير بنية تحتية حديثة، وتدريب الكوادر. إضافةً إلى ذلك، وتماشيًا مع «رؤية السعودية 2030»، تسعى وزارة الصحة إلى تطوير نظام رعاية صحية جديد يتمحور حول المريض ويراعي تحقيق الرفاه بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا. 1 وقد زاد عدد العيادات الاستشارية التي تقدم خدمات الصحة النفسية الأولية إلى 55 عيادة.2

تُخصّص المملكة العربية السعودية 4% من ميزانية الرعاية الصحية  لاضطرابات الصحة النفسية، وهي نسبة تزيد على المتوسط العالمي (2%)، لكنها لا تزال أقل من البلدان الأخرى ذات الدخل المرتفع (6%)3،4. ويوجد في المملكة 19.4 اختصاصي صحة نفسية لكل 100,000 مواطن، وهي نسبة تزيد على المتوسط العالمي (6.6 لكل 100,000)، لكنها أقل بكثير من الدول الأكثر ثراءً في العالم (64.3 لكل 100,000).

ورغم أن اضطرابات الاكتئاب والقلق كانت الأكثر انتشارًا بين الأمراض النفسية حتى قبل جائحة «كوفيد-19»، فقد ألحقت هذه الأزمة أضرارًا بالغة بالصحة النفسية لعدد أكبر من السكان. وأجرى باحثون في «جامعة الملك سعود» مسحًا استقصائيًّا على وسائل التواصل الاجتماعي لرصد أعراض الاضطرابات النفسية في أثناء الجائحة، وذكروا أن نحو 21% من المشاركين عانوا من اكتئاب تتراوح شدته بين متوسط إلى شديد جدًّا، في حين عانى 17.5% من القلق و12.6% من التوتر.5 وتماشيًا مع نتائج مسوحات مماثلة في الصين وإيطاليا وإسبانيا، كان الشباب والنساء والأشخاص الذين لديهم تاريخ من المرض النفسي الأكثر عُرضة للإصابة بأعراض حادّة 6،7.

يقول أحمد الهادي، الأستاذ المساعد بجامعة الملك سعود والمشرف على الدراسة: "هذا البحث مهمٌ للوقوف على آثار جائحة «كوفيد-19» ووضع استراتيجيات الوقاية والعلاج".5 ويؤكد أيضًا الحاجة إلى مزيد من الدراسات وبرامج الوقاية والعلاج لعدد من  مشاكل الصحة النفسية الأخرى، مثل التنمر، وحالات الإدمان السلوكي (مثل ألعاب الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي)، والإنهاك.

تقديم الاستشارات والتركيز على الوقاية

عادةً ما تركز دراسات الصحة النفسية التي تُجرَى في المملكة العربية السعودية على أمراض أو فئات سكانية محددة، مثل المرضى في المستشفيات. وقد أُجري أول مسح استقصائي علمي شامل في الفترة بين الأعوام 2011 و2016، عندما انضمت المملكة العربية السعودية إلى «مبادرة الاستقصاء العالمي للصحة النفسية» كأول دولة من دول مجلس التعاون الخليجي. وقد أظهر «المسح الوطني السعودي للصحة النفسية» SNMHS -الذي أُطلق عام 2010 وشمل 4004 مشاركين من الذكور والإناث تتراوح أعمارهم بين 15 و65 عامًا- أن نحو شخص واحد من بين كل ثلاثة أشخاص في السعودية قد شُخِّص باضطراب نفسي في وقت ما من حياته. وتتشابه تلك النتائج مع البيانات التي جُمعت في فرنسا وهولندا8،9.

أطلقت المملكة عددًا من المبادرات للوقاية من الاضطرابات النفسية الناجمة عن جائحة «كوفيد-19» أو التغلّب عليها. على سبيل المثال، أطلق «المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية» مبادرة «لبّيه الأمل» في عام 2020، بهدف تقديم استشارات سرية وآمنة في مجال الصحة النفسية عبر تطبيق مجاني على الهواتف الذكية، إضافة إلى إشراك العاملين في القطاع العام من خلال برنامج «تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل» بهدف رفع كفاءتهم وإنتاجيتهم في العمل10.

وعلاوةً على ذلك، أصدر «المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها» «الدليل الإرشادي للصحة النفسية والاجتماعية» الذي يستعرض مجموعة من أفضل الممارسات للحفاظ على الصحة النفسية في أثناء جائحة «كوفيد-19»11. على سبيل المثال، يُسلّط الدليل الضوء على أهمية ممارسة الرياضة، لأن الجمع بين الصحة البدنية والنفسية إحدى الاستراتيجيات الوقائية المهمة. ويُذكر أن المملكة العربية السعودية لديها أعلى معدل في الخمول البدني بين جميع دول مجلس التعاون الخليجي، وقد كشف مسح استقصائي أُجري مؤخرًا في السعودية عن وجود علاقة بين ممارسة الأنشطة الرياضية المعتدلة  وانخفاض معدل الإصابة بالاكتئاب بين المشاركين الذكور، مما يؤدي إلى تقليل أعراض القلق والاكتئاب12.

تحديات واضحة: الوصم الاجتماعي ونظرة المجتمع للمرض النفسي

كشف «المسح الوطني السعودي للصحة النفسية» أيضًا أن 80% من السعوديين المصابين باضطرابات نفسية شديدة لا يسعون لتلقي أي علاج، وأن نحو 9% من السكان يستشيرون معالجين دينيين أو من غير الأطباء9.  فالوصم الاجتماعي وغيره من العقبات الاجتماعية تمنع الناس من الذهاب إلى المختصين في مجال الصحة النفسية، أو الالتزام بالعلاج، أو حتى المشاركة في المسوحات المتعلقة بالصحة النفسية13. ونتيجةً لذلك، يتأخر الأفراد المعرضون للخطر في التماس العلاجات الطبية، مما يزيد من صعوبة علاج الأمراض التي يعانون منها.

إن ارتفاع معدل انتشار الاضطرابات النفسية غير المُعالَجة في المملكة، إضافة إلى النظرة السلبية والتجارب السيئة في مستشفيات الأمراض النفسية، يُسلّط الضوء على بعض التحديات التي تواجهها الدولة14. وتشير دراسات عديدة إلى أهمية الاستثمار في إجراء مزيد من أبحاث الصحة النفسية بين النساء والمغتربين والمسنين والشباب، وأهمية توفير مزيد من مؤسسات الدعم التي تلبّي احتياجاتهم.

يقول عادل المطيري، خبير صحة السكان في «مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية» (كيمارك) و«جامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية»: "رغم المحاولات العديدة لمواجهة المرض النفسي، لا يزال هذا المجال البحثي في مراحله الأولى بالمملكة العربية السعودية. وهناك حاجة إلى إجراء مزيد من الأبحاث بخصوص الأمراض النفسية لدى النساء، والعقبات المجتمعية التي تحول دون الحصول على المساعدة، والوصم الاجتماعي، والالتزام بالعلاج، للحدِّ من المخاطر المتزايدة لتدهور الصحة النفسية في البلاد"15.

ويمكن لتشجيع الحديث عن الصحة النفسية أن يهدم المحظورات، ويُحفِّز على تبنّي موقف إيجابي تجاه المصابين بأمراض نفسية، ويُعزّز الرفاه16. فقد وجد الباحثون في جامعة سليمان الراجحي أن الغالبية العظمى من طلاب الطب يتبنّون مواقف إيجابية تجاه المرضى النفسيين، وأن الأكثر احتكاكًا منهم بالأمراض النفسية أو الذين يُخطّطون للتخصص في الطب النفسي كانوا أكثر استعدادًا لمشاركة غرفتهم مع، أو حتى الزواج من، مصاب بمرض نفسي. ويشير ذلك إلى أن الاحتكاك بالمرض النفسي والاهتمام بدراسته يخفف من حدة الوصم الاجتماعي، ويشجع على تبنّي سلوك أكثر دعمًا وتقبلًا للآخرين. 17

يقول أسامة زيتون، المشرف على الدراسة: "الوصم الاجتماعي للمصابين بالأمراض النفسية عقبة واضحة في مجال الصحة العامة. نحتاج إلى مزيد من الجهود لتقييم الوضع، وربما اقتراح تدابير لمجابهة  الوصم المرتبط بالمرض النفسي بين عموم السكان ".

لقد زاد الوعي بقضايا الصحة النفسية، لا سيّما بين الشباب، بفضل حديث بعض المشاهير العالميين علانيةً عن معاناتهم الشخصية مع المرض النفسي في أثناء جائحة «كوفيد-19». ورغم أنها خطوة مُشجِّعة، تشير البيانات إلى أن هناك كثيرًا مما يمكن -وما ينبغي- فعله للتصدي للوصم الاجتماعي المتعلق بالمرض النفسي وتقديم الدعم لمن يحتاجون إليه.

References

  1. https://europepmc.org/article/MED/332456122 article
  2. https://www.moh.gov.sa/en/Ministry/nehs/Pages/vision2030.aspx article
  3. Al-Subaie, Abdullah S., AbdulHameed Al-Habeeb, and Yasmin A. Altwaijri. “Overview of the Saudi National Mental Health Survey.” International Journal of Methods in Psychiatric Research 29.3 (2020): e1835.  article
  4. World Health Organization. (2018a). Mental health atlas 2017. Geneva, Switzerland: World Health Organization.  article
  5. AlHadi, Ahmad N., Mohammed A. Alarabi, and Khulood M. AlMansoor. “Mental health and its association with coping strategies and intolerance of uncertainty during the COVID-19 pandemic among the general population in Saudi Arabia:cross-sectional study.” BMC psychiatry 21.1 (2021): 1-13.  | article
  6. Mazza C, Ricci E, Biondi S, Colasanti M, Ferracuti S, Napoli C, et al. A Nationwide survey of psychological distress among Italian people during the COVID-19 pandemic: immediate psychological responses and associated factors. Int J Environ Res Public Health. 2020;17(9):3165. | article
  7. González-Sanguino C, Ausín B, Castellanos MÁ, Saiz J, López-Gómez A, Ugidos C, et al. Mental health consequences during the initial stage of the 2020 coronavirus pandemic (COVID-19) in Spain. Brain Behav Immun. 2020; 87:172–6.| article
  8. http://www.healthandstress.org.sa/Publications/Articles/Al-Subaie%20et.%20al%202020%20-%20Overview%20of%20the%20Saudi%20National%20Mental%20Health%20Survey.pdf | article
  9. Saudi National Mental Health Survey - Technical Report: http://www.healthandstress.org.sa/Publications/Articles/Al-Subaie%20et.%20al%202020%20-%20Overview%20of%20the%20Saudi%20National%20Mental%20Health%20Survey.pdf. article
  10. Hassounah, Marwah, Hafsa Raheel, and Mohammed Alhefzi. “Digital response during the COVID-19 pandemic in Saudi Arabia.” Journal of Medical Internet Research 22.9 (2020): e19338. Journal of Medical Internet Research - Digital Response During the COVID-19 Pandemic in Saudi Arabia (jmir.org). | article
  11. https://covid19.cdc.gov.sa/wp-content/uploads/2020/04/EN_Preventive-Guide-for-Mental-and-Social-Health.pdf and https://covid19.cdc.gov.sa/community-public/mental-health/| article
  12. Althumiri, Nora A., Mada H. Basyouni, and Nasser F. BinDhim. “Exploring the Association Between Physical Activity and Risk of Mental Health Disorders in Saudi Arabian Adults: Cross-sectional Study.” JMIR Public Health and Surveillance 7.4 (2021): e25438.  | article
  13. Alissa, Nawal A. “Social barriers as a challenge in seeking mental health among Saudi Arabians.” Journal of Education and Health Promotion 10.1 (2021): 143.  article
  14. Al Mousa, Yaqoub, et al. “Saudi service users’ perceptions and experiences of the quality of their mental health care provision in the Kingdom of Saudi Arabia (KSA): A qualitative inquiry.” International journal of mental health nursing 30.1 (2021): 300-316. | article
  15. Almutairi, Adel F. “Mental illness in Saudi Arabia: an overview.” Psychology research and behavior management 8 (2015): 47. | article
  16. Dawood, Eman, and Omar Modayfer. “Public attitude towards mental illness and mental health services in Riyadh, Saudi Arabia.” Res Hum Soc Sci 6 (2016): 63-75. | article
  17. Zitoun, Osama A., et al. “Attitudes of medical students in Saudi Arabia towards mental illness and their beliefs regarding its causes and treatability.” Asian Journal of Psychiatry 56 (2021): 102515.  | article

أقرأ أيضا

الكشف عن ارتباطات جديدة بين الجينات والأمراض

يساعد تحديد التسلسل الجيني وقواعد بيانات تشخيص الأمراض على الكشف عن ارتباطات جديدة

الجائحة تنال من كافة الأعمار

بحاثٌ أُجريت مؤخرًا تُوضِّح تأثير الجائحة العالمية في الأُسَر التي يعاني بعض أفرادها من اضطراب ما بعد الصدمة والتوحد.