التبعات النفسية لمرض "كوفيد-19"

جعلتنا جائحة "كوفيد-19" نُقدِّر أهمية الصحة النفسية في الآونة الأخيرة. والآن، توفِّر لنا أبحاثٌ من مختلف أنحاء العالم رؤى ثاقبة بخصوص الأضرار النفسية المترتبة على الجائحة.

baranozdemir / Getty Images

لدى ناصر بن دهيم، الباحث البارع والرائد في مجال الأعمال، قصةٌ مثيرة للاهتمام. يروي بن دهيم: "لدينا أداةٌ لتقييم الصحة النفسية على موقعنا الإلكتروني، وذات يومٍ في شهر أبريل عام 2020، تعطَّلت خوادمنا الحاسوبية. وعندما استقصيتُ الأمر، وجدتُ أعدادًا مهولة من الناس يحاولون استخدام الأداة، بلغ متوسطهم 10 آلاف شخصٍ في الثانية الواحدة". وهذا الإقبال الذي شهده بن دهيم لم يكن سوى حالة من الاهتمام البالغ بالصحة النفسية، نجمت عن جائحة فيروس كورونا.

وحاليًا، ما زالت الجائحة تكتسحُ العالم وهي على أعتاب عامها الثالث. وقد اتَّضحت لنا أضرارها النفسية بعد وقتٍ قصيرٍ من انكشاف التأثيرات الجسدية المدمرة التي يتسبَّب فيها المرض. فالخوف صار يساور الكثيرين من أن يمرضوا مرضًا شديدًا، وتفاقَم ذلك الخوف بسبب تدابير التباعد الاجتماعي المفاجئة وطويلة الأمد، التي فرضتها الحكومات حول العالم.

هذا الخطر المُحدِّق بسلامتنا النفسية يدفع الباحثين إلى دراسة أثر الجائحة في الصحة النفسية دراسةً أوسع وأشمل. فبعد هذا الإقبال الضخم على أداة التقييم النفسي المُتاحة على الانترنت، شرع بن دهيم ومعه فريقٌ بحثي سعودي في إنشاء منظومةٍ وطنية لمتابعة الصحة النفسية، هي الأولى من نوعها في المملكة العربية السعودية. وبتمويلٍ مستمرٍ من جمعية "شارِكْ" للأبحاث الصحية، التي أسسها بن دهيم في عام 2015، يُجري هو وفريقه من الباحثين المتطوعين حاليًا مقابلاتٍ دوريةٍ، لتقييم الصحة النفسية للأفراد في شتى أنحاء المملكة، سواءٌ عبر الهاتف أو من خلال التطبيقات الذكية، ويُخزِّنون البياناتُ المُستَقاة من تلك المقابلات في منصةٍ إلكترونية، يستضيفها المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية في المملكة.

وفي الفترة ما بين مايو وأغسطس 2020، أجرى بن دهيم وفريقه مقابلاتٍ شهرية مع أشخاصٍ اختاروهم عبر قائمةٍ عشوائية من أرقام الهواتف، واستقصوا خلال هذه المقابلات أفكار ومشاعر أكثر من 16 ألف شخصٍ بالغ في المملكة. وتوصَّل الفريق إلى أنَّ المشاركين كانوا مُعرَّضين بدرجةٍ "عالية نسبيًا" لخطر الإصابة بالاضطراب الاكتئابي الكبير (MDD)، واضطراب القلق العام (GAD)1. وعندما قارن الباحثون نتائجهم بالبيانات المستقاة من دراسةٍ وطنية أُجريت عام 2018، وجدوا أنَّ خطر الإصابة بالاكتئاب في البلاد قد ارتفع بنسبة 71.2%. وفي مشروعٍ بحثي آخر مرتبط بالمسألة ذاتها، وجد بن دهيم وفريقه ارتباطًا بين حالة الفرد من ناحية تلقي اللقاحات المضادة لفيروس كورونا وحِدّة الاضطرابات النفسية. فالأفراد الذين تلقوا جرعات اللقاح كاملةً كانوا أقل قلقًا واكتئابًا وأرقًا ممن تلقوا جرعةً واحدة فقط من اللقاح، والذين بدورهم كانوا أفضل حالًا من ناحية الاضطرابات النفسية مقارنةً بمن لم يحصلوا على اللقاح.

الاهتمام بمُقدمي الرعاية الصحية

من الضروري أيضًا أن نراعي احتياجات مُقدمي الرعاية الصحية. فلا يخفى على أحد أنَّ العمل في الخطوط الأمامية بقطاع الرعاية الصحية، يُعرِّض صاحبه لضغوطٍ شديدة، وقد تسبَّبت الجائحة في تفاقُم تلك الضغوط. ولهذا عكفت خِزْرَة سُلطانة، مُنسقة الأبحاث السريرية بمركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية (كيمارك)، بالتعاون مع فريقٍ بحثي من السعودية والهند، على دراسة تأثير مرض "كوفيد-19" وإجراءات الإغلاق في العاملين بمجال الرعاية الصحية بالمملكة.

تقول سُلطانة عن الدراسة: "كان هدفنا الرئيسي حماية الصحة النفسية للعاملين بمجال الرعاية الصحية". وتتذكر الباحثة أنَّه في أثناء انتشار متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)، أفاد 75% من المشاركين في إحدى الدراسات بأنَّهم يعانون من اضطراباتٍ نفسية. غير أنَّ الفريق أجرى استطلاعًا لآراء العاملين بمجال الرعاية الصحية في أنحاء المملكة عام 2020، ووجد أنَّ المشاركين يعانون من مستوياتٍ أقل نسبيًا من الاضطرابات النفسية2. فقُرابة 77% من المشاركين في الاستبيان، الذين بلغ عددهم 1130 شخصًا، بدا أنَّهم يعانون درجةً من الاكتئاب تتراوح حدّتها "بين الطبيعية والطفيفة". وقالت نسبةٌ مماثلة من المشاركين إنَّ حدة القلق لديهم كانت "من ضئيلة إلى طفيفة"، في حين قال نحو 86% إنَّهم إمَّا لم يُصابوا بالأرق مطلقًا، وإما أصابهم بمستوياتٍ لا ترقَى لأن تكون مصدرًا للانزعاج.  

شعرت سُلطانة تجاه هذه النتائج بشيءٍ من الدهشة في البداية، إذ كانت تتوقع نتائج أقل إيجابية من ذلك. لكن مع نشر دراساتٍ تؤيد هذه النتائج في بلدانٍ مختلفة، منها دراساتٌ أجريت في الصين وإيطاليا خلال ذروة معدلات الإصابة فيهما بمرض "كوفيد-19"، طرح الفريق تفسيراتٍ للكيفية التي يتمكن بها العاملون في مجال الرعاية الصحية من التكيُّف مع الوضع إلى هذه الدرجة.

والجُهوزية هي إحدى النظريات المطروحة في هذا الصدد. تقول سُلطانة إنَّ المملكة تعلَّمت دون شكٍ دروسًا عديدة من تفشي متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس). ولذا عندما عصف "كوفيد-19" بالبلاد، اتخذت الحكومة ومؤسسات الرعاية الصحية قراراتٍ سريعة، حفظت الأرواح وحمت صحة السكان وسلامتهم؛ مثل، توفير معدات الحماية الشخصية، واللقاحات، وخدمات الرعاية النفسية للعاملين بقطاع الرعاية الصحية.

وترى سُلطانة أيضًا أنَّه مع قتامة الوضع خلال الجائحة، فإنَّ تدابير الإغلاق يمكن أن يكون لها بُعدٌ إيجابي، يتمثَّل في قضاء وقتٍ أطول مع الأسرة. وصحيحٌ أنَّ هذا الاستنتاج مبنيٌ على رواياتٍ فردية غير مثبتة، فإن هناك أبحاثًا منهجية تُجرَى في الوقت الراهن بخصوص مدى انتشار استراتيجيات التكيُّف وأهميتها.

فعلى سبيل المثال، عكف سيد سمير أغا، الباحث في جامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية، بمعية فريق بحثي من السعودية والهند تحت قيادته، على دراسة وضع الصحة النفسية في العالم واستراتيجيات التكيُّف لدى عموم الناس في فترة انتشار مرض "كوفيد-19"3. وكانت النتائج التي توصَّل إليها الفريق البحثي أقل تفاؤلًا مما خلُصت إليه دراسة سُلطانة التي أُجرِيت على العاملين في مجال الرعاية الصحية، فقد رصدت النتائج وجود "مستوياتٍ عالية من الاكتئاب والقلق" لدى المشاركين. كما حدَّد أغا وفريقه مجموعةً من استراتيجيات التكيُّف يستخدمها الناس ليحاولوا الحفاظ على سلامتهم النفسية، منها مشاهدة التلفاز، والتفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي، وقضاء الوقت مع الأسرة، والطهي، والنوم، والاستماع إلى الموسيقى.

تُبرز هذه النتائج مدى أهمية التوسع في تقديم خدمات الرعاية النفسية، من أجل التغلب على الضغوط المصاحبة لهذه الأوقات الاستثنائية. فجائحة فيروس كورونا سلَّطت الضوء على مفهوم الصحة النفسية، وجعلته في صدارة اهتمامات الكثيرين. وهناك إجماعٌ واضح بين الباحثين على أنَّ دعم الصحة النفسية جديرٌ بأن يُوضع على قائمة الأولويات. لكن لو نظرنا إلى الأمر من منظورٍ لوجيستي، فثمة عقبات تعترض سُبُل تقديم هذه الخدمات، منها تدابير التباعد الاجتماعي، التي تفرض على مُقدمي الرعاية الصحية تقديم خدماتهم عن بُعد. وسوف تستكشف الأبحاث المستقبلية تأثير الدعم النفسي في المصابين بمرض "كوفيد-19"، وهو ما سيُتيح لنا بياناتٍ يمكن أن تسترشد بها الحكومات وهيئات الرعاية الصحية، كي تكافح الآثار واسعة النطاق لهذا المرض بفاعلية.

References

  1.  | BinDhim, N. F., Althumiri, N. A., Basyouni, M. H., Alageel, A. A, Alghnam, S. et al. Saudi Arabia Mental Health Surveillance System (MHSS): mental health trends amid COVID-19 and comparison with pre-COVID-19 trends. European Journal of Psychotraumatology12, 1875642 (2021).article
  2.  |Al Ammari, M., Sultana, K., Thomas, A., Al Swaidan, L., Al Harthi, N. Health Outcomes Amongst Health Care Workers During COVID 19 Pandemic in Saudi Arabia. Frontiers in Psychiatry11, 619540 (2021). article
  3.  | Sameer, A. S., Khan, M. A., Nissar, S., Banday, M. Z. Assessment of Mental Health and Various Coping Strategies among general population living Under Imposed COVID-Lockdown Across world: A Cross-Sectional Study. Ethics, Medicine and Public Health15, 100571 (2020). article

أقرأ أيضا

دراسة العلاقة بين «كوفيد-19» والتغيرات الجينية

مبادرة تعاون دولي بين البنوك الحيوية تتحدَّى نتائج سابقة  حول عوامل جينية مُحتملة  تقفوراء الإصابة الشديدة بـ«كوفيد-19».

الجائحة تنال من كافة الأعمار

بحاثٌ أُجريت مؤخرًا تُوضِّح تأثير الجائحة العالمية في الأُسَر التي يعاني بعض أفرادها من اضطراب ما بعد الصدمة والتوحد.

الكشف عن ارتباطات جديدة بين الجينات والأمراض

يساعد تحديد التسلسل الجيني وقواعد بيانات تشخيص الأمراض على الكشف عن ارتباطات جديدة